واحة الفكر
والثقافة
>>
مقالات فكرية :
اللغة العربية والإعلام..
للأستاذ نصر الدين البحرة
قرأتُ مؤخراً مقالة تسهب في إطراء مذيعة تلفزيون فرنسي وقد ذكرت كاتبتها أن هذه المذيعة "تتكلم بلغة سليمة وتحرص في أدائها على التمسك الشديد بل التشبث بقواعد اللغة الفرنسية الصعبة بعيداً عن العاميّة. وكما أن هناك فارقاً بين اللغة العربية الفصحى الدارجة وبين اللغة العربية السليمة، فهناك أيضاً الفرق نفسه في اللغة الفرنسية" بين فصحاها وبين عاميتها.
ونقلت الكاتبة عن هذه المذيعة ما ذكرته في حديث صحفي من "أنها حريصة على قواعد اللغة الصحيحة لأنها هي المرجع والأساس، وأن واجب المذيع الأول الذي يسمعه كل الناس هو أن يؤكد القاعدة السليمة -المرجع- لا أن ينحني للدارجة العامية التي تعجز في النهاية عن التعبير الأصدق لأبعاد الكلمة ومعانيها". والسيدة المذكورة تقضي من أجل ذلك يوماً كل أسبوع في دراسة قواعد اللغة الفرنسية، مع أنها الأستاذة المتخصصة في اللغة، لكي يكون
نطقها سليماً وخالياً من الأغلاط اللغوية.
ولا بد لنا، بادئ ذي بدء، ونحن نتحدث عن اللغة العربية في وسائل الإعلام المسموعة والمتلفزة، من أن نشيد بعدد من مذيعاتنا ومذيعينا الكرام في الإذاعة والتلفزيون، هؤلاء الذين يحرصون كثيراً على سلامة النطق وصواب اللفظ وعدم الوقوع في أغلاط النحو والصرف.
عندما تتكرر الأغلاط غير أن هذا شيء، وواقع الأمر، في شكله الأوسع ومضمونه الأعمق شيء آخر. فنحن إزاء مشكلة حقيقية لا بد من الاعتراف بها، إذا كنا نود للغتنا
الفصحى أن تستقر وتنمو وتسود.
وإنما تكبر المسألة حين ننتبه إلى أننا نقضي الوقت الأطول نحن و أبناؤنا، أمام أجهزة التلفزيون والراديو، مستمعين أو مشاهدين، وربما أمضى نفر من الأسرة الواحدة ساعات، دون أن يحدِّث أحدهم الآخر، مشدودين جميعاً إلى تمثيلية أو فيلم أو برنامج يشاهدون.
وحين يصدر غلط من هذا المذيع أو تلك المذيعة، في اللغة أو النحو والصرف، فإن الطفل أو الفتى - والراشد أحياناً- يحسب أن هذا هو الصواب، فإذا تكرر مرات عديدة، رسخ الغلط في الذهن، حتى يعسر اقتلاعه في بعض الأحيان، نظراً لما تتمتع به العادة من قوة تتغلغل في ثنايا المزاج والعقل.
مغالط الكتاب ومناهج الصواب
ما برحت أتمنى مثلاً أن أقرأ ترجمة فيلم أجنبي.. خالية من الأغلاط التي تقلع العين كما يقولون. بَلْه سقم الترجمة في أحيان كثيرة في حيث لا يُفهم منها شيء، إضافة إلى ركاكة لغتها وفسولتها.
ومهما يكن من أمرٍ فإنّ هذه المسألة ليست جديدة، وإنما يؤكد ذلك وجود عدة مؤلفات في المكتبة العربية، حول الأغلاط في الإعلام المقروء قبل سنوات بعيدة. من ذلك مثلاً كتاب صدر في أواخر القرن الماضي -دون ذكر تاريخ طبعه، ولكن مطبعته، والمكتبة التي عرضته يوحيان بذلك وعنوانه "مغالط الكتاب ومناهج الصواب".
وثمة كتاب "إصلاح الفاسد من لغة الجرائد" المطبوع في نهاية الربع الأول من هذا القرن.
من أين تتسرب الأغلاط إلى وسائل الإعلام عامة، والمسموعة والمرئية خاصة؟
لا بد من الإقرار بأن ثمة ضعفاً عاماً، على اختلاف مستويات الدراسة، في اللغة العربية، يتجلى في النحو والصرف والبلاغة.. والإملاء.. واللغة ذاتها.
ولا بأس هنا، من عودة سريعة إلى مناهج التعليم في السنوات الخمسين الماضية، يوم كان نمو التعليم عمودياً، لا أفقياً، مثلما حدث في السنوات التالية، بعد أن أقرت إلزامية التعليم ومجانيته وأدخل مبدأ الترفيع الآلي على الصفوف الابتدائية. إن نوال الشهادة الابتدائية كان يعني حداً أدنى مقبولاً من الإلمام باللغة العربية. وكان يسمح لحامل هذه الشهادة بشغل
وظيفة معلم وكيل، يمكن أن يُثبَّت في مابعد.. إذ ينجح في امتحان معين.
أما الآن.. فإن التخرج من قسم اللغة العربية ذاته في الجامعة، عاد لا يعني إتقان اللغة العربية.. حتماً.
الغلط لا يكلف أكثر من ابتسامة
ونستطيع الكلام، دون حرج، من جانب آخر عن تدني مستوى بعض مدرسي اللغة العربية في المرحلة الثانوية - والجامعية أيضاً- ومعروف أن فاقد الشيء لا يعطيه.
كان الوقوع في الغلط، يعني شعور صاحبه بكثير من الحرج والارتباك، حتى لو كان هذا الغلط طفيفاً. ولكنه الآن، لا يقتضي سوى ابتسامة بسيطة، قد تعني:
هل خربت الدنيا جراء هذا الغلط؟
يحدث هذا في الوقت الذي يشعر بخجل وحرج كبيرين، من يغلط في لغة أجنبية ما.. وقد يكون لذلك علاقة بعقدة الشعور بالدونية لدى هؤلاء الناس... وتمثل الترجمة الرديئة واحداً من مجالات الإسهام الواسعة في الأغلاط اللغوية.وتسربت نتيجة ذلك تراكيب إلى اللغة العربية، هجينة تماماً، من مثل قولهم:
"كلما كثر الغيم، كلما كثر المطر" ومعروف أن "كلما" المصدرية الظرفية، لا تحتاج إلى تكرارها في الجواب مرة ثانية. قال الشاعر:
كلما أنبت الزمان قناة * * * * * ركّبَ المرء في القناة سنانا
وثمة تركيب آخر -وما أكثر الأمثلة- بات متداولاً في وسائل الإعلام المرئية خاصة في الأفلام المترجمة، ومثاله: "بقدر ما تجتهد، بقدر ما تنجح". وهو الآخر غريب هجين.
|