كتابٍ من صنعة متخصصٍ في علوم العربية عاش حياته لأجلها تأليفاً وتدريساً، ويدرك القارئ لهذا الكتاب تمكن المؤلف رحمه الله في هذا المجال وقدرته التي أعطت الكتاب ذوقاً فنياً عند صياغته له بمنهج مبسط واضح جامع. ::: المزيد
وقال أيضاً ((وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ )) [68 القلم/10-12] .
لقد حظر الإسلام على المؤمن إساءة الظن بالناس والشك بهم , أو التجسس على حياتهم الخاصة , وتتبع نقائصهم , أو التحدث عنهم بما يكرهون , أو نقل كلام بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم , فشبَّه الله تعالى هذه الأعمال بما فيها من قبح وأذى , بأكل لحوم الأخلاء والمقرَّبين بعد موتهم , وأمرنا أن نتَّقي هذه الموبقات وأن نقتلع جذورها من أعماقنا .
وتتابع الآيات القرآنية بناء نموذج الإنسان الكامل في نفوس المسلمين , فبعد أن نَهتهم الآية السابقة من السخرية , واللمز والتنابز , تأتي هذه الآية لتحُدَّ من غلواء الاستنتاجات السيئة التي يمكن أن يفسر بها الإنسان التصرفات الشخصية لغيره , وتلزمه أن يحمل ما يرى من ذلك , على المحمل الحسن ما دام ذلك ممكناً حفاظاً على صلة المودَّة بين المسلمين , ومنعاً للأضرار الواسعة التي يمكن أن تلحق المتَّهم بما ليس فيه زوراً وبهتاناً ؛ فجاءت الآية الكريمة لتضع حداً لما يمكن أن يحدث نتيجة هذه الإساءة من مكروه , وكما أكّد النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بقوله : ( إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنَّ به ظن السوء ) رواه مسلم والترمذي مرفوعاً .
فيحرم سوء الظنِّ بمن شوهد منه الستر والصلاح وعُرفت عنه الأمانة , أما من يجاهر بالفجور فلا يحرم سوء الظن به , بل إن سوء الظنِّ به أولى لحماية من حوله من أذاه وشره .
وقد علَّلت الآية الكريمة الأمر باجتناب كثير من الظنِّ في قوله (( إنَّ بعض الظنِّ إثم )) لأن فيها أتهاماً وشكَّاً بالآخرين غير مبني على معطياتٍ صحيحة وخاصة إذا كان الأمر يتعلَّق بحياة الناس الشخصية وفي ذلك يقول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : ( إذا ظننت فلا تحقق ) رواه أبن عدي عن أبي هريرة رضي الله عنه ,ومعنى هذا أن تفترض في الناس البراءة , فيما يتعلق بأمورهم الخاصَّة التي يعود نفعها أو ضررها عليهم وحدهم , صيانة لحقوقهم وحريَّاتهم ؛ فلا بنبغي لأحد أن يتعدَّى على حرمة الحياة الشخصية لللآخرين . وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم سوء الظن بالمؤمن من خلال أحاديث كثيرة منها مارواه ابن ماجة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : ( ماأطيبكِ وأطيب ريحكِ , وماأعظمك وأعظم حرمتكِ , والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حُرمة منكِ , ماله ودمه , وأن يظن به إلا خيراً ) .
كما حرم الله تعالى على عباده المؤمنين التجسُّس : وهو تتبع عورات المسلمين خفية دون علمهم , والتنقيص من كرامتهم والتشهير بهم لأي سبب كان . ويأتي التجسس في المرتبة التالية لسوء الظنِّ , و جه يخرج صاحب الظن السيء من دائرة التفكير الداخلي الضمني , إلى حيز العمل والسلوك الحسِّي الخارجي , فيعمد إلى هذا التصرف بحثاً عن النقائص وراء إبراز الأخطاء ونشرها . إن الإسلام يحارب هذا السلوك الدنيء من الناحية الأخلاقية , ويدعو إلى تطهير القلب من هذا المرض تمشياً مع أهدافه وروحه , فقد أخرج أبو داوود وغيره عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال : ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يامعشر من آمن بلسانه , ولم يدخل الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين , فإن من تتبع عورات المسلمين , فضحه الله في عقر بيته ) .
ويحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراض الفتاكة التي إن حاقت بالمجتمع مزقته وإن تخللت صفوف الأحباب باعدتهم , فنهانا من التجسُّس وعن التحسُّس ( وهو الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون ,أو التسمُّع على أبوابهم ) , وحذَّرنا من التباغض , والقطيعة ؛ فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث , ولاتجسسوا ولا تحسسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد اله إخوانا , ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ) .