واحة الفكر
والثقافة
>>
دراسات قرآنية :
بسم الله الرحمن الرحيم
آداب اجتماعية إسلامية
لباقة الحديث وأدب النجوى
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوى الله الذي إليه تحشرون} [المجادلة: 9].
وقال أيضاً: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} [النساء: 114].
يحرص المؤمنون على الرقي بأفكارهم والسمو بأحاديثهم ومجالسهم نحو الأحسن والأفضل، لذا ينهاهم الله تعالى عن التعرض في مجالسهم إلى ما فيه أذىً للناس في أعراضهم، أو اعتداء على كرامتهم، وينهاهم عن الخوض فيما يؤذي الرسول الكريم أو يكون مقدمة لمخالفته.
كما يعطي الإسلام للوقت قيمة غالية ثمينة، ويحرص على عدم هدره، وذلك بدعوة المؤمنين لأن تكون مجالسهم جادة تثمر ما فيه خير للبلاد والعباد، فوَّاحة بعبق الإيمان والرياحين الربَّانيَّة، ذاخرة بكل ما فيه شدٌّ للهمم والعزائم إلى المزيد من الطاعات والأخلاق الحميدة.
روى أبو برزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أواخر عمره إذا قام من المجلس يقول: ((سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقال رجل: يا رسول الله إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى! قال: كفارة لما يكون في المجالس)) أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح الله ويحمده ويسغفره كلما انتهى من مجلسه الذي لا يخرج من دائرة الدعوة إلى دين الله تعالى، وإلى ما فيه خير الناس في الدنيا والآخرة، فما الذي يتوجب علينا فعله عند فراغنا من مجالسنا، التي تدور معظم الأحاديث فيها في دائرة اللغو الذي لا طائل تحته ولا نفع منه ولا ضرر، ناهيك عن الغيبة والنميمة وربما البهتان! هذا عن مجالس عموم الناس، أما أصحاب النوايا المغرضة والنفوس الخبيثة، فمجالسهم مؤامرات، واجتماعاتهم مكائد للنيل من كل ما هو خير، ومن كلِّ من هو مخلص يعمل لإصلاح أمر الأمة.
وقد نهى القرآن الكريم صفة اللغو عن المؤمنين الخاشعين في أكثر من موضوع، من ذلك قوله عز وجل: {قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3)} [المؤمنون: 1ـ3]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) رواه مسلم والبيهقي، والآية الكريمة تنهى عن الجلوس في مجالس اللغو والنميمة، أو الخوض في هذه الأحاديث، وتأمرنا بأن نستبدلها بمجالس تحضُّ على العمل البنَّاء الخيِّر المثمر، وتهدف المسامرة فيها إلى ما فيه خير الأمة وصلاحها، وتبين لنا ما يليق بالمؤمن من أحاديث تهدي إلى البرِّ والتقوى، وأهمها ذكر الله تعالى، وقراءة القرآن الكريم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناقشة السُّبل لتحسين أحوال المسلمين في المجالات كافَّة، لذا كانت المحاور الأساسية التي ينبغي أن يدور حوار المجالس عليها ثلاثة محاور:
أولها ـ الترغيب بالصدقة والحث على الإنفاق ودراسة شؤون الفقراء والمحتاجين الذين لا يجدون ضروريات الحياة، ووضع منهج منظم لجميع ما يفيض عن حاجاتنا، واستثماره في خدمتهم من خلال عمل بنَّاء، يوظف الأيدي العاملة ويعود بالنفع على الجميع.
ثانيها ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا خير في مجتمع يعيش أفراده حسب أهوائهم دون رادع أو وازع، ولا بدَّ من وجود عين يقظة ترصد الخطأ، وضمير حيٌّ يقوِّم الاعوجاج ويصلح الخلل بلطف ورويَّة.
وهذا ما دعا إليه رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) رواه الخمسة إلا البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
أما ثالثها فهو القيام بالعمل المجدي الخلاَّق الذي نزلت به الشرائع السماوية في بعض ما نزلت لأجله، وهو نشر المحبَّة والسَّلام بين الناس جميعاً، لتسود المجتمع رابطة الأخوة التي تحقق التماسك والقوّة.
إن نشر المحبة بين الناس يعني فيما يعنيه الإصلاح بين المتخاصمين، فالخصومات والشحناء تنتشر في كل المجتمعات، صغيرها وكبيرها، ففي الأسرة الواحدة خلافات وخصومات، وفي الحيِّ الواحد والبلد الواحد أيضاً، وكذلك بين الدول، مما يؤدي إلى الفشل وتردِّي الأخلاق وتدهور المجتمعات، لذلك جاء فيما رواه البيهقي عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أبا أيوب ألا أخبرك بما يُعْظِمُ الله به الأجر، ويمحو به الذنوب؟ تمشي في إصلاح الناس إذا تباغضوا وتفاسدوا فإنها صدقة يحبُّ الله موضعها)).
فالمؤمن لا يدَّخر جهداً لرأب الصدع بين المتخاصمين، وتحويل ما بينهم من النزاع والعداوة إلى محبَّة وسلام، باذلاً في سبيل ذلك جهده ووقته وماله إذا قضى الأمر، لعل المحبة تنتشر بين الأفراد، ثمَّ تشمل الشعوب والدول، فتتحول هذه الأرض إلى كوكب تغمره الطمأنينة والسعادة ومراعاة للآداب والسلوك الاجتماعي السليم؛ فقد نهى الإسلام عن التناجي إذا كان في ذلك أذىً لأحد، ونهى أيضاً عن تناجي اثنين في مجلس يحضره شخص ثالث دون مشاركته، حفاظاً على مشاعره وصيانة لكرامته.
والنجوى هي الحديث الخافت الذي يدور بين اثنين على الأغلب، أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه)) ومع ذلك فإن للتناجي وجهاً آخر رائعاً وهو ما كان بين المحابين، وما كان فيه من توادد وتراحم وتقارب، وأجمل صور هذا التناجي وأحبها هو ما يكون بين الله عز وجل وعبده المؤمن يوم القيامة، فقد روى الإمام أحمد أن صفوان بن محرز رضي الله عنه قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر رضي اله عنهما إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرِّره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا ورد بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين)).
فلنتق الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ففي ذلك كله خيرنا، ثم إنه سيجمعنا للحساب ويجازي كلاًّ بعمله، وهو شاهد عليه ومحصيه مهما سترناه وأخفيناه.
والحمد لله رب العالمين
كتبه: غازي صبحي آق بيق |