واحة الفكر
والثقافة
>>
دراسات قرآنية :
بسم الله الرحمن الرحيم
تابع آيات قرآنية
الله جل جلاله (5)
قال تعالى : ( الله نور السموات والأرض ...) 24 النور آية 35 .
الله نور السموات والأرض ، ولنوره حلاوة تتحسسها الأرواح وتنشرح لها الصدور ، ولا يمكن للعين أن تدركه ، لأنه ذو طبيعة خاصة لا تستشفها إلا عين القلب ، لآن القلب مسكن حب الرحمن ومعرفته !! ولا يمكن الاهتداء إلى هذا النور إلا بتزكية النفس وتطهير الروح ، وصقل مرآة القلب لينعكس عليها جمل الأنوار الإلهية ، كما ينعكس ضوء القمر على صفحة الغدير الساكن .
والآية الكريمة تثير الإحساس الروحي لكي يتطلع المؤمن إلى الأفق الواسع ، ويستشرف الحقيقة في آفاق السموات والأرض ، ويتهيأ لتلقي الفيض الإلهي في عالم ملؤه الإشراق والنور .
وما يكاد اسم الله تعالى ، يتجلى من خلال كلمات هذه الآية حتى يفيض النور ويغمر الكون كله ، فيفرقه في جلاله الباهر ، ثم ينسكب في الحنايا والجوانب ، ويظهر مع المشاعر والجوارح ، فتعانقه العيون وتدركه البصائر ، وتنزاح الحجب ، وتشف القلوب ، وترفرف الأرواح ، فإذا الكون كله – بما فيه ومن فيه نور طليف من القيود والحدود ، تتصل فيه السموات والأرض ، والأحياء بالجمادات ، والبعيد بالقريب ، وتلتقي الطوايا والظواهر ، والحنايا والقلوب المغمورة بالنور الَّذي يهبها جوهر وجودها ويودعها ناموسها .
وقد استطاع البشر مؤخراً أن يدركوا بعلمه طرفاً من هذه الحقيقة الجليلة ، عندما تحول ما كان في أيديهم من المادة – بعد تحطيم الذرة – إلى إشعاعات منطلقة قوامها النور ، فذرة المادة مؤلفة من كهارب والإلكترونات ، تنطلق عند تحطيمها في هيأت أشعاع من النور . وقد أدركت قلوب الأنبياء والرسل هذه الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون ، كما أدركها قلب الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم كاملة شاملة ففاض بها فؤاده وهو عائد من الطائف ، نافضاً كفيه من الناس ، لا إذاً بربه ، قائلاً : ( أعوذ بنور وجهك الَّذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ) أخرجه الطبراني عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما . ونتيجة لإيمانه وحبه لله تعالى – مصدر النور وناشره في الوجود – كان دائم التوجه إليه ، ليستمد من ذلك النور ولينعكس عليه أكبر قسط منه ، فيردد في مناجاته هذا الدعاء الكريم : ( اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً وفي سمعي نوراً ، وعن يميني نوراً وعن يساري نوراً ، ومن فوفي نوراً ومن تحتي نوراً ، ومن أمامي نوراً ، ومن خلفي نوراً وجعل في نفسي نوراً ، وأعظم لي نوراً ) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
إلا أن الكيان البشري – بطبيعة تركيبه – لا يقوى طويلاً على تلقي ذلك الفيض الغامر من النور ، ولا يستشرف ذلك الأفق البعيد دون أن يكلل نظره ويرتد طرفه حسيراً ، لذلك نرى الآية القرآنية قد أوضحت هذا الأفق المترامي ، ثم عادت تقارب بين أبعاده ، وتقربه إلى الإدراك البشري المحدود في مثل قريب محسوس ، وتنتقل من آفاق السموات والأرض إلى المشكاة وهي كوة صغيرة في الجدار غير نافذة من الخلف ، يوضع فيها المصباح ، فتحصر نوره وتجمعه وتوجهه باتجاه واحد فيبدو قويً باهراً .
وهذا المصباح في زجاجة وهاجة تقيه العوامل الخارجية ، وتصفي نوره ، فيزداد تألقاً وهي في ذاتها شفافة ، رائعة ، سنية ، منيرة . ثم تربط الآية الكريمة بين المثل والحقيقة ، بين النموذج والأصل ، فترتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير ، كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير ، الَّذي ذكر لتقريب صورة الأصل الكبير فحسب ، ومن المصباح وإلى زينته الَّذي ينهوا من يقتات ، إنه زيت الزيتون الَّذي أثمرته الشجرة المباركة المعمرة النافعة ، وهو أصفى الزيتون ، ونوره أبها الأنوار ، لأنه يتمتع بشفافية ذاتية وإشراق ذاتي ، حتى ليكاد يضيء بغير احتراق . وتلك الشجرة المباركة تنتصب في مكان لا شرقي ولا غربي فالشمس ترسل إليها النور ، والحرارة تأتيها من كل اتجاه ، ولا تتحجب عنها طوال سعات النهار . وبذالك يتجلى لنا ذلك النور العميق الطليق ، إنه نور مترادف متضاعف اجتمعت على إطلاقه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم يبقى شيء منما يقوي النور ويزيده إشراقاً ويمده إضاءة إلا وقد أسهم في إذكاء وتأججه .. وكذلك هي برهين الله تعالى واضحة ، مترابطة ، يؤيد بعضها بعض ، كالدلائل المعجزة وتتابع الرسل وإنزال الكتب ، حتى لا يبقى في القلب مكان للشك أو الريبة في حقيقتها
والله عزَّ وجل يهدي لنوره من يفتحون قلوبه لتلقي هذا النور الفائض في السموات والأرض ، والَّذي لا ينقطع ولا يحبس ولا يخبو ، وحيثما توجه إليه القلب رآه ، وحيثما تطلع إليه الحائر هداه ، وأنّى تّصل به وجد ظلالاً من جلال الله تعالى وجماله . والمثل الَّذي ضربه الله تعالى لنوره ما هو إلا وسيلة لتقريبه إلى المدارك ، فنوره عزَّ وجل ينعكس ويتجل في السماوات والأرض والإنسان ، وتظهر أثاره متميزة في والإنسان المؤمن أكثر مما تظهر في السماوات والأرض وذلك لأن قلبه المنورَّ يصلح لان يكون موضع النظر الرباني ، ويتشرف بأن يعمره فيسكنه الحب الإلهي ، وبهذه الميزة نال الكرامة عند الله تعالى دون سائر المخلوقات ، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى : ( لم يسعْني أرضي ولا سمائي ، و وسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع ) . رواه الإمام أحمد في الزهد ، عن وهب ابن منبِّه
والحمد لله رب العالمين
غازي صبحي آق بيق / أبو غانم |