اخترنا لكم
>>
قصة و عبرة
:
انتحار الأمل
تحتَ لهيب الشمسِ الحارقة يجرُّ خطواتِه، وعلى وجنتيهِ الحمراوَينِ يقْطرُ العرقُ المختلط بهموم العيش، يستترُ ببنطالٍ اختفتْ ألوانُه وبقميصٍ مُرَقّعٍ بخيبةِ أمله!
يسير وهو يتذكر أمَّه المريضة التي غادرها وهي تصارعُ الألم في غرفتها المتهالكة, متشبثةً ببضعة أنفاسٍ تُوشِكُ أن تَنفَدَ!
ينتعلُ رمضاءَ الأرض المشتعلة، ويستنشقُ حرارة الشمس المتربِّعة في كبد السماء! يزعجُه كثيراً صراخُ بطنه الفارغ منذُ أيامٍ... يحاول أن يصمد.. فيَهدُّهُ التعب.
يبحث عن إنسانٍ في زحمة المخلوقات التي تسير حولَه.. يبحث عن فاضلِ حياةٍ تقيم حياته وحياةَ أمه!
وجد في طريقه مطعماً أبوابُه مُشْرَعَة.. فأشرع لأمله أوسع الأبواب..
وقف منكسراً أمام بابه.. قلّب طَرْفَه في وجوه الداخلين والخارجين علَّهُ يَجِدُ من يشعر بوقوفه, فيرقُّ له قلبُ وتربِّتُ على كتفَيهِ يدٌ..
لكنّه عبثاً كانَ واقفاً.
بدأ يتمتمُ بصوتٍ حزين لكل خارج:
- أرجوك يا سيّدي.. أريدٌ طعاما لأمّي المريضةِ..
بعد كلّ نداءٍ يقف منتظراً لردٍّ أو حتى لالتفاتةٍ.. ولكن شيئًا مِن ذلك لم يحدث..
بدأ الطفل يشكّ في نفسه:
- هل تحدثتُ قبل قليل؟ أم لم أتحدث؟
- هل أصبحتُ ميتاً في نظر هؤلاء؟
- أم أنهم أصبحوا أمواتاً لا يسمعون ولا يرون؟
خرج صاحبُ المطعم ليُغلقَ أبوابه.. فأغلق باب أملٍ كان للتوِّ مشرَعاً.
هرب الطفلُ من آلامهِ فلحقتْ به.. جلسَ على حافّةِ الطريق، فإذا بها تجلسُ بجانبه..
دموعه سيوف تجرح خدَّيهِ!
أُوصِدَتْ في وجهه جميعُ الأبواب.. ليس سوى نافذةٍ في سيارةٍ فارهةٍ تطلُّ منها سيدةٌ أنيقة.. قال لنفسه:
- لابدّ أن تكون المرأة أكثر رقةً من الرجال الذين قابلتُهم.
قصد السيارة, ومدّ يدهُ النحيلةَ نحوَ السيدة التي تركبُ في الخلف.. لكنّها اصطَدمتْ بزجاجِ السيارة النظيف.. طرقَ النافذة وهو يُشير بسبّابته نحو السماء..
فُتحت النافذة، فانفتحت معها أبوابُ الأمل مجدداً.. لم يَدُمْ ذلك طويلاً.. فالنافذة التي فُتحت لم تلبث أن أُغلقتْ بعدما خرجَ منها منديلٌ متسخٌ ارتطمتْ به كلُّ أحلامِ الطفلِ لتتكسّر أمامه.
الإشارةُ الحمراءُ التي كانت تُوقِفُ السيارةَ لم تلبثْ أنِ خضرّتْ..
انطلقَتِ السيارةُ في سبيلِها..
وانطلق الطفلُ في دربِ شقائه.
راشد عمر البارقي
|