واحة الفكر والثقافة
>>
مقالات
دعوية :
من رجالات دمشق / صلاح الدين الزعبلاوي .. حامل لواء التصويب اللغوي 1من 2 :
د. حسان الطيان .
رئيس مقررات اللغة العربية في الجامعة العربية المفتوحة في الكويت .
في الظاهرية عرفته، حيث كان يختلف إليها أحياناً، متأبطاً خيراً كثيراً، طاوياً صدره على علم غزير، يدخل القاعة_ قاعة الباحثين_ بقامته المديدة، ونظرته السديدة، ووقاره الهادئ الرصين. كنت أختلس النظر إليه، ويروعني اهتمام المدير_ مدير الظاهرية_ به، بل يثير فضولي هذا الاهتمام، وتلك الحفاوة التي يخصه بها دون خلق الله أجمعين، حتى إنه كان يوصي به أمين القاعة، صديقنا الأديب الأريب الأستاذ إبراهيم الزيبق، فأتساءل في نفسي ماسر هذه العناية؟ ومن هذا الرجل الذي ملأ أرجاء القاعة هيبة وجلالاً؟ وعلماً وفهماً؟ ورصانة ووقاراً؟ وحفاوة وتكريماً؟. ولم يلبث تساؤلي طويلا في نفسي، بل سرعان ما همست به لصاحبي الأستاذ إبراهيم ليأتيني جوابه مفصلا محكما:
إنه الأستاذ صلاح الدين الزعبلاوي صاحب كتاب «أخطاؤنا في الصحف والدواوين» وهو أشهر كتاب وضع في الأخطاء الشائعة في الثلاثينيات من هذا القرن، وإن مدير الظاهرية_ الأستاذ ماجد الذهبي_ واحد من تلامذته، وقد كان له تاريخ متطاول في التربية والتعليم، إذ درس مادتي التاريخ والجغرافية في عدة مدارس بدمشق، وتولى إدارة أكبر ثانوياتها ( ثانوية جودت الهاشمي، وثانوية أمية) ثم عُيّن مديراً للتربية في وزارة التربية والتعليم عام 1963م، وتولى بعدها الإدارة العامة للكتب الدراسية، وكان خلال ذلك كله شغوفاً بالعربية، محباً لها، باحثاً في دقائقهاوأسرارها، عالماً بفنونها ومسالكها.
ومنذ ذلك الحين طويت نفسي على حب هذا الرجل، وتتبع آثاره، وتقصّي أخباره، حباً يتملّكني ويستبدّ بي لكل من رفع للعربية راية، أو درّس علومها, أو أبدع في فن من فنونها. وكنت كلما ازددت به معرفة، ازددت له إجلالاً وتقديراً، ثم قرأت له فيما قرأت مقالاً ضافياً عن التضمين نشره في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، في أول معرفة لي بهذه المجلة العريقة، فراعني أن شيخ أشياخنا بهجة العراق وعلّامتها الشيخ بهجة الأثري كتب في العدد التالي يقول: (قرأت في الجزء الأول من المجلد الخامس والخمسين من مجلة مجمع اللغة العربية- كتب الله لها النمو والدوام- مبحث «التضمين» للباحث اللغوي المدقق الأستاذ صلاح الدين الزعبلاوي، وهذا واحد من مباحث لغوية بارعة، شرعت هذه المجلة الزهراء تنشرها له في المدة الأخيرة. وهي شاهدة لصاحبها بفقهه في اللغة العربية، وبفضله وحسن تأتّيه في إعمال الفكر، والروية فيما تناوله من شؤونها، باحثاً متقصياً وناقداً متثبتاً...).
على أن الشهادة التي لا تعدلها شهادة في نظري, وإنما كانت من شيخنا النفاخ, وإن تعجب فعجب أنها لم تكن للرجل بل ضده، ولكن من يعرف شيخنا النفاخ رحمه الله تمام المعرفة يدرك أنه ناقد خبير، ومتتبع بصير، لا يكاد يقع فيما يقرأ إلا على خطأ، ولا يكاد يذكر أحداً من معاصريه إلا بذمٍّ أو تعريض أو غميزة، وكأنما هو موكّلٌ بأخطاء العلماء وعثراتهم، والسعيد السعيد من بات في نجوة من قدحه أو تجريح . وكان الزعبلاوي رحمه الله واحداً من هؤلاء السعداء, فجلُّ ما تعلق به شيخنا النفاخ عليه أنه طويل النفس فيما يكتب من مقالات وبحوث لمجلة المجمع، وكان النفاخ من أبرز المحكمين في البحوث اللغوية خصوصاً، فكان يتبرّم من طول مقالات الزعبلاوي، ويقيني أنه لو وقع فيها على خطأ أو شبهه لتحول تبرمه إلى سخط وغضب, ورفض للنشر، وطعن بالمادة المكتوبة، ولكن كل هذا لم يكن، ومابرحت صفحات مجلة المجمع تزدان ببحوث الزعبلاوي إلى لقي وجه ربه. وحسبه بذلك شرفاً وسؤدداً. وإذا دلت كلمة النفاخ على شيء فإنما تدل على مبلغ تتبع الزعبلاوي لمسائل اللغة في كتب المتقدمين، حتى إنه لا يدع صغيرة ولا كبيرة وردت في المسألة إلا ذكرها باحثاً ومنقباً, وناقداً ومنقرا.
وقد ذكر لي ابنه الأخ الصديق الدكتور رافع الزعبلاوي، وهو اليوم أستاذ للغة الإنكليزية بجامعة الكويت، أن والده كان ينكبُّ على مطالعاته وكتاباته حتى ساعات متأخرة من الليل، مما استرعى انتباه أحد أصدقائه الذين كانوا يدرسون معه ويمكثون حتى ساعة متأخرة بعد منتصف الليل. فقال له: «لم أغادر بيتكم مرة بعد منتصف الليل إلا ألفيت والدك منهمكاً ببحثه ودراسته ودأبه، عجباً! ألا يمل المطالعة أبداً؟ نحن الصغار نملّ هذا، فكيف هو لا يمل؟! كم أعجب لجلده وصبره ومواظبته ومثابرته!».
وأضاف الدكتور رافع: «لقد كان من أكثر الأمور غرابة وطرافة في والدي قوة تركيزه في وسط الضجة والصخب. فقد كنت تراه غارقاً في بحثه غير آبه بما يجري حوله في الغرفة ذاتها، حيث كان البعض يتسامرون والبعض يشاهدون التلفاز والبعض يلعبون، تنظر إلى وجهه فتراه في أوج جديته وتفكيره وتأمله وإمعانه في مسألة لغوية يبدو أنها تتطلب رأياً صائباً وتفسيراً وافياً. لم أشهده أضاع يوماً دون تخصيص حظ وافر من الوقت للقراءة والكتابة، ممتثلاً قول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علماً يقرّبني إلى الله، فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم»، وصائرا إلى ما قال أبو الفتح البستي:
إذا مرّ بي يوم ولم أتخذ يداّ
ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري
والحق أن الأستاذ الزعبلاوي لم يك مقتصرا على مصاحبة الكتب والعكوف عليها، بل امتد نشاطه لحضور الندوات العلمية، والمحاضرات الثقافية، وشهود احتفاليات مجمع اللغة العربية بدمشق، والمشاركة في تدريس العربية في بعض المعاهد العلمية العالية والكليات الشرعية التي تعنى بأمر العربية، الأمر الذي شجعني على دعوته إلى أول محاضرة لي في مكتبة الأسد بدمشق، عن تعليم قواعد العربية بالحاسوب، وما كان أشد فرحي حين وجدته في الصف الأول بين الحضور، وتلك لعمري يد لا أنساها له عرفانا بفضله، وذكرا لتشجيعه ونبله.
ومن جميل ما صنع الرجل أنه جمع مقالاته وبحوثه التي نشرها في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ومجلة التراث العربي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، وجريدة الثورة اليومية، في كتب حفظت لنا علمه وبصره، بقيت تخلد ذكره وأثره، وهي:
1 - مسالك القول في النقد اللغوي: وهو يضم مقالاته وبحوثه المنشوره في مجمع اللغة العربية بدمشق.
2 - لغة العرب: وهو يشتمل على كلمات كان يكتبها يومياً في جريدة الثورة تحت عنوان (أخطاء شائعة) أو (لغة العرب).
3 - مذاهب و آراء في نشوء اللغة وتدرج معانيها: وهو بحث في فقه اللغة وصرفها، ختمه بنبذة عن سيرته الذاتية والعلمية كتبت بأسلوب رائق, وبيان عال، لعله من أبدع ما قرأت في السيرة الذاتية.
4 - مع النحاة: ويضم بحوثه التي كتبها في مجلة التراث العربي.
على أن الكتاب الذي كان رحمه الله يتطلع إلى نشره بعد أن حشد له كل طاقته، واستفرغ به كل وسعه، وبذل فيه قصارى جهده، ثم مات دون أن تكتحل عينه برؤيته، إنما هو معجم أخطاء الكتّاب، وسأخصه بفضل بيان وتفصيل في الحلقة التالية لهذا المقال.
في حلة قشيبة وطبعة أنيقة مهيبة صدر عن دار الثقافة والتراث بدمشق (معجم أخطاء الكتَّاب) للغوي القدير الأستاذ صلاح الدين الزعبلاوي رحمه الله تعالى.
والكتاب درَّة نفيسة طالما انتظرها عشاق العربية، فقد أمضى المؤلف فيه عمره يبحث وينقِّب ويصنف ويؤلف إلى أن أدركته المنيَّة دون أن تكتحلَ عيناه برؤيته، فأمسك الراية بعده أستاذان جليلان من أعضاء مجمع اللغة العربية بدمشق هما: الأستاذ الدكتور محمد مكي الحسني والأستاذ مروان البواب، استفرغا الجهد وبذلا الوسع في إعداد المعجم للطباعة وتقديمه لقرَّاء العربية.
وقد اجتمع لهذا المعجم من وجوه الإتقان والجودة ما يرقى به إلى مصافِّ المعجمات المعتمدة في مكتبتنا العربية.
فأول هذه الوجوه مؤلِّفه وهو الأستاذ العلامة صلاح الدين الزعبلاوي الباحث اللغوي القدير الذي عاش نحوًا من مئة عام سلخ معظمها في رحاب العربية، ناسكًا في محرابها، عاشقًا لجمالها، هائمًا في أسرارها، محقِّقًا لأصولها، مدقِّقًا لأحكامها، منقِّرًا لنصوصها، متتبِّعًا لعللها وفوائدها، حتى أوفى على الغاية، وقد شهد له كلُّ من عرفه أو قرأ له من أرباب اللغة وسدنة العربية بالعلم الجمِّ وطول الباع وعلوِّ الكعب والمكنة من هذه اللغة الشريفة.
|