واحة الفكر
والثقافة
>>
دراسات قرآنية :
التربية الأخلاقية في الإسلام :
تزكية النفس
قال تعالى ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )) [الشمس/7-10]
تعكس هذه الآيات الكريمة حقيقة الوجود النفسي في الإنسان , فهو مخلوق ذو استعدادات متوازية لاستقبال المؤثرات الخيِّرة و الشِّريرة على السَّواء . لذا فقد فاز من أعمل أجهزة التقَاْط المؤثِّرات الخيِّرة لديه فرجَّح خيره على شرِّه , وانعكس تزكية و تطهير بمحبة حضرة الله وذكره , وقد خاب من عطَّلها و جعل مؤثِّرات الشَّر تغلبه , فلوَّث نفسه بالمعاصي ودنَّسها بالآثام .
وهكذا تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بأوضح معالمها فالكائن البشري بنظر الإسلام مخلوق مزدوج الطبيعة , مزدوج الاستعدادات , مزدوج الاتجاهات , ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد , أنه بطبيعة تكوينه من طين الأرض ومن نعمة الله تعالى فيه من روحه , مزوَّد باستعدادات متساوية للخير والشَّر , و الهدى و الضَّلال , وهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شرٌّ , كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشرّ , وهذه القدرة كامنة فيه يُعبِّر عنها القرآن الكريم بالإلهام تارة في قوله (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ))وبالهداية تارة أخرى في قوله عزّ وجل ((وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )) [البلد/10] .
فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد , والرسالات و التوجيهات و العوامل الخارجية , إنما يوقظ هذه الاستعدادات وتشحذها و توجهها هنا أو هناك , و لكنها لا تخلق خلقا لأنها مخلوقة بالفطرة , و كائنة بالطبع , و كامنة بالإلهام .
فالنفس البشرية تُخلق على الفطرة , وكأنها أرض خصبة صالحة للإنبات أيِّ بذور تُذرع فيها , و هنا يكمن دور الوالدين والعائلة والمجتمع في التأثير على شخصية الإنسان واستعداداته . وحين يصبح في سن البلوغ يمسك قراره بيده , فله عقله وتفكيره , وله حرّيته ملئ إرادته في زرع أرض نفسه بما شاء وكيفما شاء .
فإن التقى بذور الخير و الإيمان ومحبة الله سبحانه و الخلائق , فقد نجح و أفلح في مهمته التي خُلق من أجلها , لأنه بذلك يكون قد ربى نفسه ونمَّاها , حتى بلغت غاية ما هي مستعدة له من الكمال العقلي و العملي , وأثمرت بذلك الثمر الطيب لها و لمن حولها .
وإن هو أهمل هذا الاختيار و ترك لنفسه العنان , وسار بها على درب الفساد والإفساد فقد خاب مسعاه , و فشل في مهمته , و خسر نفسه وأوقعها في التهلكة بفعل المعاصي و مجانبة الطاعات , و بذلك يكون قد هون من شأن القوة العاقلة التي اختصَّ بها بوصفه إنسانا ً , و اندرج في عنان الخاطئين المسيئين لاستعمال قوانين الله عز و جل .
هناك إذن تبعة مرتَّبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار و التوجيه ؛ توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير و حقل الشر على السواء . ومن رحمة الله تعالى بالإنسان أنه لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي , ولا للقوة الواعية المالكة للتصرُّف وحدهما , بل أعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة , وتكشف له موجبات الإيمان , و دلائل الهدى في نفسه و في الآفاق من حوله , فيبصر الحقَّ في صورته الحقيقيَّة , وبذلك يتَّضح له الطريق وضوحاً كاشفاً لا خفاء فيه ولا شبهة .
أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا هذه الآية (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا )) وقف ثمَّ قال : اللهم آت نفسي تقواها ,أنت و ليها و مولاها وأنت خير من زكاها ) فتزكية النفس هدف من أهداف الرسالات السماوية , وغايتها الارتقاء بالطبائع الإنسانية حتى تصبح أقرب إلى الملائكة , و تخليص الإنسان من سيطرة سلطان الأهواء و الشهوات لتكون الفضائل مُثُلاً عليا تقود مسيرته في الحياة , وتوجه سلوكه بحيث لا يخرج من إطار التربية الأخلاقية .
والحمد لله رب العالمين
غازي صبحي آق بيق/أبو غانم
|