واحة الفكر
والثقافة
>>
دراسات قرآنية :
تابع التربية الأخلاقية في الإسلام:
القناعة
قال الله تعالى : (( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )) [43 الزخرف/32].
تسجل هذه الآية استنكاراً للقول الذي يتقوَّله بعض الناس حين يتكلمون بدافع من جهل مطبق , فيدعون أنه ليس من العدل أن يكون هناك فقراء بين الناس , وأن العدالة تقتضي أن يُقَسِّم الأرزاق بالتساوي , فلا يكون هناك فقير أو غني . وهم بذلك يتطفلون ويدعون القدرة على تغيير موازين المجتمعات البشرية , وتبدل القواعد التي ترتكز عليها , ولو أنهم أمعنوا النظر في الأمر لوجدوا أن استمرارية الحياة على هذه الأرض تقتضي وجود التفاوت بين الناس , في المال والعقل و القدرات , ليتمَّ التعاون فيما بينهم لئلا تتعطل أمور الحياة أو تخرج عن مسارها الصحيح .
إن رحمة الله تعالى وقد برمج نظام الأرض ومن عليها ؛ لاتقتصر على توزيع الأرزاق على الناس بل هي أوسع من ذلك وأشمل , فكم من فقير قنوع , سعيد في حياته ؛ ينعم برحمة الله تعالى , وكم من عنيٍّ طامع سُلب هذه الرحمة , فلا يهدأ له بال ولا يطمئن ولا يعرف للسعادة طعماً , فالقناعة كنز لايملكه إلا من آمن بحكمة الله تعالى قولا و عملاً فيما أقسم لخلقه .
إن بعض أدعياء الفكر والثقافة يريدون أن يغيِّروا شراع المجتمع وأسلوب الحياة , وفق موازينهم المختلَّة ونظرتهم القاصرة , والتي تنظر إلى الأمور من زاوية ضيقة , ولا تنظر إليها نظرة دقيقة شاملة , لذلك لم يدركوا ما سيلحق الناس من ضرر و افساد وتفتيت للعلاقات القائمة بينهم , ولو تم لهم ما أرادوا .
إن الله سبحانه قدر شؤون هذا الكون أحسن تقدير , وخلق الإنسان في أخسن تقويم , وقدر قوانين الرزق والعطاء , وخلق الأسباب و المسببات لئلا يتواكل الناس وينقطعوا عن السعي و العمل فكذلك قدر وجود الطبقات الإجتماعية المتفاوتة التي لايدلُّ وجودها على فساد تركيبة المجتمع , ولا يعني تفضيل قوم على قوم , بل هي أقوام مسخرة لخدمة بعضها بعضاً , تتساوى جميعاً في الحقوق و الواجبات والكرامة الإنسانية , كما تتساوى أمام حضرة الله تعالى في الجزاء على العمل والعبادة , فتعمل بشكل منسجم يتمم بعضها بعضاً , بحيث يشعر كلٌّ في موقعه بالسرور والقناعة إذا أدى الدور المنوط به بنجاح وإتقان فالسبق الحقيقي هو لمن أحسن عمله , واستقامت سيرته , وأبلى البلاء الحسن فيما يرضي الله تعالى عنه دون طغيان أو إخلال بموازين الأمانة والمسؤلية و الشرف , وحين يسير دولاب الحياة يسخر بعض الناس بعضهم حتماً .
وليس هذا التسخير مثار استعلاء طبقة على طبقة , أو فرد على فرد بل هو توزيع للوظائف الحياتية المطلوبة على كل أفراد المجتمع كما قال سبحانه و تعالى : (( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )) [6 الأنعام/165] .
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن , قلت أنا يارسول الله , فأخذ بيدي وعد خمساً وقال : اتق المحارم تكن أعد الناس , وارض بما قسم الله تكن أغنى الناس , وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً , وأحبب للناس ماتحب لنفسك تكن مسلماً , ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب ) رواه الترمذي والإمام أحمد .
والحمد لله ربِّ العالمين
غازي صبحي آق بيق /أبو غانم
|