كتابٍ من صنعة متخصصٍ في علوم العربية عاش حياته لأجلها تأليفاً وتدريساً، ويدرك القارئ لهذا الكتاب تمكن المؤلف رحمه الله في هذا المجال وقدرته التي أعطت الكتاب ذوقاً فنياً عند صياغته له بمنهج مبسط واضح جامع. ::: المزيد
نهى الله تعالى المؤمنين عن السخرية الآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم , فلعلَّ من يُسخر منه ويُنظر إليه نظرة احتقار , خيرٌ وأحب إلى الله عزَّ وجل من الساخر الذي يعتقد بنفسه الكمال , ويرمي أخاه بالنقص ويعيره .
وخص الله تعالى النساء بتكرار النهي عن السخرية من العباد والتعالي عليهم , مع أنهنَّ مشمولات بالنهي الأوَّل , نظراً لتفشي هذه العادة السيئة بين اللواتي لم يفقهن عن حضرة أوامره , ولم يحذرن من غضبه وعذابه , فلم يملكن الحكمة في ملء فراغهن بطاعة الله ؛ بل اتخذن من اللغو والسخرية والتنافس في المظاهر ميداناً لشغلهن , وقضاء أوقاته فراغهن . ونهى الله تعالى المؤمنات من تبادلا لشتائم , والتهاتر بالألفاظ القبيحة , لأن ذلك يوقع البغضاء بينهم , ويتجه بهم إلى منزلقات الجاهلية .
إن مادة السخرية لا تنبعث ألا من نفس ملوثة بجراثيم العجب والتكبر . فهي تعمل على إيذاء من حولها بدافع الشعور بالفوقية المتغلغلة في أعماقها المريضة .
لقد استهان إبليس بآدم وسخر منه قائلاً : أنا خير منه , فباء بالخسارة والخذلان , ولو أنه أمعن النظر في صفات آدم لأدرك أنه يمتاز عليه بصفاتكثيرة , أوجدها الله تعالى فيه ليكون مخلوقاً متوازن الصفات و الاستعدادات , فعنده أرضيّة للخير واستعداد للسوء , وعقل للتمييز وقلب للتنوير , وبالتالي فإن لديه جميع الملكات التي تصلح كأدوات للصراع بين الخير والشر , يخوضه الإنسان ويميز بين الخبيث من الطيَّب وتتقرر درجات الإحسان والإساءة .
أما إبليس فإنه لم يكن معتدلاً فقد كان طاووس العبادة , وأصبح زعيما للشر وأهله ,حمله تكبُّره وطغيانه على الإلقاء بنفسه في دائرة غضب الله تعالى ولعنته . ولو لم تغلب عليه شقوته المتأصلة في نفسه , لأدرك الفضل والكرامة لآدم والمكانة المتميزة له عند ربه . فلم يستهن به ولم يسخر منه .
إن سخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول فعال يسعى حثيثا في تهديم العلاقات الإنسانية , وتمزيق الأخوة الإيمانية شرَّ ممزق , حيث يستعلي المرء بماله ,أو حسبه , أو جاهه مفاخرة ومباهاة وتحقيراً للآخرين, دون أن يدرك إمكانية تفوقهم عليه بمواصفات لا تتوفر فيه . فقد روى الحاكم وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( رُبّ أشعث أغبر ذي طمرين –الثوب الخلق البالي – تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبَّره ) . وفي التعبير إيماء خفي بأن القيم الظاهرة التَّي يراها الرجال في أنفسهم , وتراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية التي يُقَيَّم بها الناس , فهناك قِيم أخرى , قد تكون خافية عليهم لايعلمها إلا الله تعالى , حيث أن ميزانها الثابت العادل لا يرفع ولا يخفض , ولايقدم ولا يؤخر إلا على أساس الإيمان والعمل الصالح , وكل ما سوى هذين المعيارين باطل مرفوض . روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وألوانكم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .وفي هذا إيماء بصرف المرء عن مدح أحد أو الانتقاص منه بما يرى عليه من ظواهر الأعمال .
إن القرآن الكريم يذَّكر الذين آمنوا بأنهم وحدة متماسكة كنفس واحدة فيقول : ((ولا تلمزوا أنفسكم )) فإذا عاب غيره من المؤمنين فكأنما يعيب نفسه . واللمز هو العيب , ومن اللمز التنابذ بالألقاب التي يكرهها أصحابها , ويُحسُّون بأن إطلاقها عليهم ما هو إلا من قبيل السخرية والعيب
والخلاصة : إن الآية الكريمة تشير إلى ضرورة تجنب أمور ثلاثة فيها كل الإساءة إلى المجتمع الإيماني , وهي السخرية واللمز والنًّبز .
فالسخرية هي أن ينظر الإنسان إلى أخيه بازدراء ويسقطه عن درجته.
وللمز هو ذكر مافي الرجل من عيب في حضوره أو في غيبته .
والنَّبز هو أن يضيف إليه وصفاً يوجب بغضه والحطُّ من منزلته , وبذلك يضع الإسلام قواعد اللياقة الاجتماعية والأدب النفسي للتعامل في المجتمع الإنساني الفاضل الكريم .