الجزيرة المجهولة
د 0 مسلم تسابحجي
من هناك من وراء الجبال و الصحارى جاء يسعى بهمة ونشاط يريد أن يتعلم الحكمة ساقه توقه إلى تعلم الحكمة ودفعه الألم الذي يقض مضجعه، يريد أن يفعّل طاقاته الكامنة و أن يخرج العملاق من داخله قطع المفاوز ليصل إلى تلك الجزيرة حيث يقيم ذلك الرجل الحكيم الذي طالما سمع عنه من والده الذي كانت وصيته الوحيدة و هو يلفظ أنفاسه الوحيدة:
يا بني من حاز الحكمة حاز كل شيء
و من فاتته الحكمة فاته كل شيء
يا بني اذهب إليه تعلم منه الحكمة
وصل إليه وهو يحمل في داخله أمواجاً متلاطمة ،يحفزه الفضول وتدهشه الحيرة ويربكه الحذر ويحدوه الأمل :
- جئتك من مسافة بعيدة
- يا بني ... ليس الأمر بقطع المسافات
فارق نفسك بخطوة يحصل لك مقصودك
اخلع عنك عاداتك فأنت لست عاداتك
قد مشاعرك قبل أن تقودك
اخرج من قمقم أفكارك تتسع دنياك وتختف آلامك
من أنت يا بني وماذا تريد؟
- أنا ابن أبي الهناء أوصاني والدي رحمه الله أن آتي إليك لأنه يريدني أن أتعلم منك الحكمة .
- أعلم ذلك وأعلم من هو أبوك وماذا يريد ، وأنا أنتظرك منذ زمن طويل ولكنك لم تجب على سؤالي: من أنت يا بني وماذا تريد ؟
تعجب الفتى من السؤال فقد أجاب عنه للتو وظن أن الرجل لم يسمع جيداً فأعاد الإجابة بصوت أعلى:
- أنا أبن أبي الهناء ، لقد كان تلميذاً عندك وطالما حدثني عنك وقد أراد رحمه الله أن أتعلم منك الحكمة يا سيدي .
- عجيب أمرك يا بني ، قلت لك آنفاً إني أعلم جيداً من هو أبوك وماذا يريد أنا لا أسألك عن ذلك وإنما أسألك أنت يا بني من أنت ؟ و ماذا تريد أنت ؟ اذهب إلى الغابة القريبة تجول بين أشجارها وأنت تفكر بعمق في الجواب ولا تأتني إلا بعد أن تنضج إجابتك .
وبينما كان يستمع لحفيف الأشجار الخضراء الباسقة ويشم أريج الأزهار البرية الملونة بكل ألوان الطيف ، كانت الإجابة تتبلور شيئاً فشيئاً :
- أنا دوامة جئتك يا سيدي لأنني أريد أن أتعلم منك فنون الحكمة لأحل مشاكلي ومشاكل الناس من حولي ولأحقق أهدافي وأساعد الآخرين على تحقيق أهدافهم .
تهلل وجه الحكيم بشراً و قال :
- أحسنت يا دوامة هذا والله ظني بك .
تبدأ الحكمة بأن يعرف الإنسان نفسه جيداً وأن يحدد أهدافه وماذا يريد في هذه الحياة، ولكن للحكمة مفتاحاً أساسياً من لم يحزه لم يشمَّ رائحة الحكمة.
- ما هو يا سيدي ؟
- على رسلك يا بني ، يذكرني حماسك بحماس أبيك - رحمه الله- لقد كان من خيرة تلامذتي وأرجو أن تكون خير خلف لخير سلف .
ما رأيك ببعض الشاي الأخضر بالنعناع بعد عناء يومك الطويل ؟
- على الرحب و السعة.
بدأ الحكيم يصب الشاي لدوامة فعبق المكان برائحة النعناع المنعش وامتلأ الفنجان كله ولكن الحكيم بقي يصب الشاي حتى فاض الفنجان وبدأ يملأ الصحن الذي يمسك به دوامة حتى وصل الشاي الساخن إلى أصبع دوامة فما كان منه إلا أن رمى بالفنجان على الأرض وصرخ بصوت عالٍ : ماذا تفعل ؟
نظر دوامة إلى الحكيم الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة فعلم أن هناك درساً :
- ما الحكمة يا سيدي ؟
- ما الذي أزعجك يا دوامة ؟
- ألم تر كيف امتلأ الفنجان حتى فاض منه الشاي ؟
- وما المشكلة ؟
- المشكلة أنك بقيت تصب الشاي بعد ما امتلأ؟
- وما المشكلة ؟
- المشكلة أن الفنجان المملوء لا يمكن ملؤه .
- أحسنت يا دوامة الفنجان المملوء لا يمكن ملؤه بشيء جديد فعلينا أن نفرغه أولاً هذا هو مفتاح الحكمة
امسح لوحك وتعال
لأن اللوح المكتوب لا يمكن الكتابة عليه
ولو أنا كتبنا عليه فلن نستطيع أن نقرأ
الكتابة الجديدة ولا القديمة .
العقل المملوء بالأفكار البعيدة عن الحكمة
لا يمكن ملؤه بالحكمة
مفتاح الحكمة هو أن يكون لدينا القدرة و الجرأة الكافية لنتخلى عن كثير من أفكارنا القديمة و الراسخة لنخلي مكاناً لأفكار الحكمة
- تعال معي يا دوامة ، انظر معي داخل هذا الحوض الزجاجي
- اقترب دوامة وبدأ يحملق داخل الحوض الزجاجي المملوء بالماء وإذا بالحكيم يغط رأسه فجأة داخل الماء ، استغرب دوامة ولكنه أبقى رأسه داخل الماء وبدأ الحكيم يضغط، حتى بدأ دوامة يشعر بالحاجة إلى الهواء فحاول أن يرفع رأسه ولكن الحكيم صار يضغط بشدة وكلما حاول دوامة المقاومة ازداد ضغط الحكيم شدة وحين شارف دوامة على الاختناق ، تملص بحركة عنيفة وأخرج رأسه من الماء وصرخ بصوت مرتفع:
- ماذا تفعل ؟ هل تريد أن تقتلني ؟
ولدهشة دوامة كانت ابتسامة الحكيم هي الإجابة .
- ما الحكمة يا سيدي ؟
- قل لي يا دوامة عندما كنت داخل الماء ما الذي كنت ترغب فيه ؟
- الهواء يا سيدي؟
- وفي البداية عندما حاولتَ الخروج لماذا لم تستطع؟
- لأنك كنت تضغط رأسي.
- وكيف استطعت في النهاية الخروج مع أني ضاعفت الضغط على رأسك أضعافاً كثيرة ؟
- لأني عندما شارفت على الاختناق صارت لدي رغبة جامحة بالهواء فاستجمعت قواي كلها وخرجت من الماء .
- إذاً عندما يصبح لدى المرء رغبة هائلة تتجمع قواه كلها ويصل إلى ما يريد. يا بني إذا لم يكن لديك رغبة هائلة في تعلم الحكمة فلن تكن مستعداً لدفع الثمن و لن تكون قادراً على حيازة مفتاح الحكمة ؟
- الثمن ! أي ثمن ؟
- ثمن مسح اللوح ، ثمن التخلي عن أفكارك المسبقة ، عن قناعاتك الراسخة ،عن طريقة التفكير التي اعتدت عليها طيلة حياتك ،إن الأمر يا بني أشبه بخروج الإنسان من جلده ،إن الثمن باهظ يا بني فهل أنت مستعد لدفع الثمن؟
إن كنت جاهزاً فلنكمل الرحلة معاً !
بداية الرحلة
- قل لي يا بني هل لديك جهاز كمبيوتر ؟
- بالطبع يا سيدي لقد اشتريت جهازاً منذ ثلاث سنوات وتدربت جيداً على العمل عليه.
- ممتاز هل تذكر كيف كان الجهاز عندما بدأت تعمل عليه ؟
- بالطبع لقد كان سريعاً وفعالاً و اختصر لي الوقت و الجهد وأوصلني إلى ما أريد بأفضل شكل ممكن .
- وماذا حدث للجهاز بمرور الوقت ؟
- الحقيقة أن الجهاز بدأ يتباطأ شيئاً فشيئاًَ حتى وصل إلى حال لا يطاق وصار عبئاً علي.
- ما سبب تباطؤ الجهاز ؟
- لا شك أن البرامج التي أدخلت إلى الجهاز ، بعضها فيه مشاكل و بعضها فيه فيروسات وبعضها فيه أخطاء .
- وماذا فعلت حينئذ ؟
- استدعيت الخبير وقام بعملية Format للجهاز حيث تخلص من البرامج المعوقة وأعاد الجهاز إلى شبابه الأول .
- إذاً, الجهاز ليس فيه مشكلة ، المشكلة في البرامج وعندما تخلصنا من البرامج السلبية لم تعد هناك مشاكل .
الجهاز يعمل بشكل رائع و المشكلة في البرامج
- يا بني الإنسان مثل هذا الجهاز ، منذ جاء إلى هذه الحياة ، بدأت البرامج المختلفة تنهال عليه من كل حدب وصوب ، بعضها من الأهل وبعضها من المدرسة وبعضها من المجتمع و بعضها من الأصدقاء و بعضها من وسائل الإعلام و بعضها من تجارب الحياة المختلفة ، و يصبح الإنسان أسيراً لهذه البرامج بغض النظر عن مدى فائدتها له أو ضررها عليه .
الناس يعملون بشكل رائع و المشكلة في البرامج
هذه البرامج هي طرق التفكير و القناعات و المعتقدات والقيم التي برمج بها الإنسان منذ نعومة أظفاره و التي تشكل بمجموعها ما يمكن أن يطلق عليه اسم " الثقافة " ، فإن كانت ثقافة الإنسان في غالبها إيجابية قلَّت مشاكله وان كانت سلبية فسيواجه مشاكل كثيرة .
عودة إلى أرشيف كلمة الشهر |