بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين، وبعد:
قال تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة)[الأنعام:54 ].
الرحمة كلمة واسعة شاملة، بها تتراحم كل الخلائق إنساً وجنّاً وشجراً ونباتاً، حتى الحيوان.
من لطيف وعظيم منن الله علينا أن هذه الرحمة التي تتراحم الخلائق كلها بها ما هي إلا جزء واحد أنعم به الكريم سبحانه وتعالى علينا من مائة جزء من رحمته تعالى التي وسعت كل شيء، واختص ذاته العلية بالباقي، أي: (تسعة وتسعين جزءاً) سبحانك يا رب ما أكرمك وما أرحمك!.
هذا الجزء الذي منَّ به على الخليقة، وجعله بينها مشاعاً، حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه بالحديث المسلسل بالأولية حين قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)[أبو داود والترمذي]، نرى في الحديث القصير أن الجذر اللغوي للرحمة تكرر خمس مرات بصيغ مختلفة.
بالتدقيق في وصف الله تعالى لنبيه الكريم: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) [التوبة:128] و: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[الأنبياء:107] نجد: رؤوف رحيم رحمة, وهذه من صفات الله تعالى وأسمائه.
إن الرأفة والرحمة من المشترك المعنوي الذي اختلفت ألفاظه واتحدت معانيه، وما أحرانا أن نلتزم الرحمة فيما بيننا، ورسول الله الأسوة رؤوف رحيم، رؤوف بأهله، رحيم بأصحابه، رؤوف بأمته: (يا رب لا أرضى وواحد من أمتي في النار) حتى بمن عاداه من قريش والمشركين، ما أحرانا بهذا التراحم!.
ما الذي يخسره الزوج ويفوته إن عاد إلى البيت ولم يجد الطعام جاهزاً؟ أوثيابه غير مرتبة؛ لمرض ألمَّ بزوجته أو تعب؟ أم أن الرأفة هنا ضعف شخصية؟
وما الذي يجنيه الأب إذا صفع ولده؛ لعدم قيامه بما أمره على الفور (مع عدم إساءة الابن)؟ هل يرضي كبرياءه بذلك؟ أم أن حُنُوَّ الأب على ولده والمسح على رأسه وملاطفته أمر يفسد تربيته؟
هل تزيد هيبة المدرس إذا رفع صوته على الطالب أو قسا عليه بدون سبب وجيه؟ أم أن ذلك عيب فيه؟
ألم تعلم أيها الأب الكريم، والزوج الرفيق، والمدرس المربي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزوجَ كان يخدم أهله؟ ويكنس بيته؟! ويصلح حذاءه بنفسه؟! ويحاور زوجاته ويدلعهن؟! ويقول للسيدة عائشة: يا عائش؟! ويا حميراء؟!
ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبَ كان يقوم لابنته الزهراء رضي الله عنها؟ ويقبِّل رأسها ويُقعدها مكانه؟!
ألم تعلم أيها المربي الفاضل، والمدرس الكريم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة كان يحاور الصحابة ويلاطفهم؟ هذا أنس بن مالك رضي الله عنه خادمه يقول: والله خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته:لم فعلته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ هذا يدل على خلق رسول الله الرفيع مع خدمه ومع صحابته ورأفته بهم، ولكن يدلنَُّا أيضاً على أدب سيدنا أنس مع النبي، وأنه لم يُحٍجْهُ لتأنيبه ولو لمرة واحدة خلال عشر سنوات، مدة خدمته للنبي صلى الله عليه وسلم، فكم كان رحيماً مع زوجاته وأهله وصحابته؟؟
إنه بذلك يعلمهم الرحمة واللطف بالحال والفعل، وهو الأسوة الحسنة، وأحدث أساليب التربية أن تُعلِّم بالحال..
أين أنت أيها الأب الصافع ولده المهين له، والزوج الغضوب الشاتم لزوجته، والمدرس القاسي، أين أنتم أيها الأخوة من هذه الأخلاق النبوية؟
فلنقرأ معاً قول الله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)[القلم:4]، وقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)[الأحزاب:21]، وقوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[الأنبياء:107].
أفبعد هذه الآيات الكريمة؟ وهذه الأخلاق المصطفوية نجد أمواجاً بشرية تدخل المحاكم لتحصيل ما في أيدي الآخرين؟ سواء أكان حقاً له أو واجباً عليه؟ سواء أأخذه بحق أو بباطل؟ أين الرحمة والرأفة والخصوم يستنزفون أموال بعضهم البعض، ويسرقون أوقاتهم وأعمارهم؟ أليس هذا من أنواع الظلم؟ والله نهى عن الظلم حين قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)[مسلم].
كيف نريد أن ننتصر على عدونا ونحن لم ننتصر على أنفسنا؟ ونحن نتظالم ولا نتراحم؟ أم كيف نريد أن يتغير حالنا إلى الأحسن والأفضل ونحن لم نغير ما بأنفسنا، والله تعالى يقول: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[الرعد:11]؟
أين قرّاء السيرة العطرة، والمتمسكون بالسنة النبوية الشريفة؟
إذن لابد من تغيير التظالم إلى التراحم والتراؤف، إلى الأخلاق النبوية، والآداب المصطفوية، إلى معنى قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)[آل عمران:159]، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
أ. محمد ضياء الدين فرفور
عودة إلى أرشيف كلمة الشهر |