كتابٍ من صنعة متخصصٍ في علوم العربية عاش حياته لأجلها تأليفاً وتدريساً، ويدرك القارئ لهذا الكتاب تمكن المؤلف رحمه الله في هذا المجال وقدرته التي أعطت الكتاب ذوقاً فنياً عند صياغته له بمنهج مبسط واضح جامع. ::: المزيد
بقلم: الأستاذ الدكتور حسام الدين فرفور.
رئيس قسم التخصص والدراسات التخصصية
في معهد الفتح الإسلامي بدمشق
إنَّ ما أعرضه في هذا البحث إنما هو حلقة في مشروع إصلاحي حواري متكامل، وهو موجه إلى نخبة من أهل العلم والفكر والفقه في الدين، بقصد المناقشة والحوار، معرَّض للنقد والتقويم، فهو يعطي ويأخذ ويحاور ويقول ليقال له ويقال عنه.
وهو بَعْدُ إسهامٌ فكري متواضع أحمل مسؤوليته ونتائجه: إن صواباً وإن خطأً، فإذا كانت الأولى حمدت الله تعالى وهذا ما إليه قصدت، وإن كانت الثانية استغفرت الله تعالى وإلى الصواب البيِّن رجعت، طامعاً في الحالين أن أكون ممن يشملهم الأجر عملاً بالحديث الصحيح المشتهر عند الفقهاء والأصوليين: « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد » قال العلماء: هذا شريطة أن يصدر الاجتهاد عن أهله بشروطه في محله.
هذا ومن الغريب حقاً أن نسمع بعض المقولات تتحدث عن إغلاق باب الاجتهاد مع وجود هذا الحديث الشريف الذي يقتضي بأن يكون المجتهد المخطئ مأجوراً غانماً، مع أن خطأ المجتهد يتعلق بالشريعة وأحكامها وبحقوق الله وحقوق العباد، وقد تصاب فيه فروج وأعراض وأموال، لكنها حكمة الله البالغة ورحمته الواسعة.
وإذا كان توالي السنين ومعها طوارئ الأمراض والعوارض هو مما يصيب الصحة الجسدية للإنسان بالوهن والعلل فإنَّ هذا ينطبق أيضاً على الأنساق الفكرية، فإذا لم يتداركها المجددون بالتجديد والمجتهدون بالاجتهاد الذي يعيد لها صفاءها ونقاءها ويخلصها من العلل الذاتية والوافدة طويت صفحتها الحية وأحيلت إلى متحف التاريخ.
ومن هنا كان تعاقب الرسالات السماوية تجديداً للنسق الديني في فكر الإنسان الذي خلق ليحقق الخلافة عن الله في الأرض.
ولما شاء الله تعالى ختم النبوة والرسالات والوحي بسيد المرسلين وحبيب رب العالمين سيدنا محمد r بالقرآن الكريم استمر التجديد سنةً من سنن الإسلام ينفي أهل العلم العدول عن هذا الدين العظيم طوارئ القرون وعللها. غلوَّاً وإفراطاً وتفريطاً وافتراءً وتأويلاً فاسداً وانتحالاً باطلاً.
فالتجديد بهذا المعنى في هذه الرسالة الخاتمة هو الذي نفهمه من الحديث الذي رواه ابو داود «إنَّ الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها» وفي رواية «أمر دينها».
هذا والناظر في حال الأمة الإسلامية اليوم يرى أن هذه الأمة تعاني من أزمة فكرية أوقعتها في مأزق حضاري خطير بحيث أصبحت في مؤخرة الركب.
ومهمة التجديد هذه هي مهمة الإنقاذ لهذه الأمة حتى يصبح لها شهود حضاري فاعل في منتدى الحضارات الإنسانية قبل أن يفوت الأوان. وحتى تعود إلى مكانة القيادة والريادة التي بوَّأها الله إياها لا بدَّ من التجديد.
التجديد غير النسخ:
بالمعنى الإسلامي مناقض للحداثة بالمعنى الغربي (بغين معجمة، نسبة إلى الغرب مقابل الشرق) فهي هدم وانقضاض على الثوابت. فالتجديد شرعيته وخصوصيته من الثايت، وبدونه لا يكون تجديداً بل نسخاً للثوابت والنسخ لا يكون إلا بنص معلوم من الكتاب أو السنة.
التجديد نوعان:
الأول: الذي يأتي من خارج النسق الإسلامي وهو المردود على أصحابه كهذا الذي نقرؤه لبعض المعاصرين الذين يحاولون إسقاط نظريات غربية حديثة على الإسلام في اللغة والتاريخ والفقه والفكر مثل: البنيوية والألسنيَّة والتفكيكية والتركيبية والتاريخية وثبات النص و حركية التأويل مما يؤدي إلى تحريف النصوص وتفريغها من محتواها، وهدم الدين باسم التجديد.
الثاني: وهو المطلوب: وهو التجديد الذي يأتي من داخل النسق الإسلامي، مؤطَّراً بأُطره، مقيداً بنصوصه، موزوناً بموازينه.
آفاق التجديد ومجالاته الفقهية:
في رأيي إن التجديد مطلوب في موضوعين أساسيين:
1-المسائل والواقعات والنوازل المستجدة فنحن بحاجة إلى اجتهادات في هذا المجال نتيجة لصدقية قاعدة "صلاحية الإسلام لكل أمة وزمان ومكان" المنبثقة عن كونه خاتم الرسالات وأنه للناس كافة، وحديث معاذ: فإن لم تجد قال معاذ: أجتهد رأيي ولا آلو "أي لا أقصر".
2-بعض المسائل الاجتهادية القديمة المنقولة في كتب الفقهاء فنحن بحاجة إلى بعض الاجتهادات الجديدة لها تتفق مع تغير الأعراف والأحوال بتغير الظروف الزمانية والمكانية عملاً بالقاعدة الفقهية الكلية (لا ينكر تغيير الأحكام بتغير الأزمان) أما مقولة : (ما ترك الأول للآخر؟) فهي مقولة لا نعرفها عند علمائنا المتقدمين بل أنكرها أهل العلم ومنهم الحافظ الإمام ابن عبد البر القرطبي بل قال: (كم ترك الأول للآخر) وهي بعدُ تتناقض مع ما ذهب إليه علماؤنا من عدم جواز خلو عصر من مجتهد يبين حكم الله تعالى، ولو خلا عصر لأثمت الأمة جميعها.
ومن هذه المسائل القديمة:
تقسيم المال إلى دار حرب ودار إسلام، وتطوير الأمور التالية بما يحفظ مصلحة الأمة العليا، ويحقق مقاصد التشريع:
1. فقه الزكاة.
2. الشورى.
3. الحسبة.
4. القضاء.
ملحوظة: وهنا لا بدَّ مِنْ ذكر المجامع الفقهية وأثرها وأهميتها والإشارة إلى عدم نشر نتائجها.
أمثلة من المسائل المستحدثة:
1. الشخصية الاعتبارية، أحكامها.
2. الشركات المستحدثة.
3. البيوع المستحدثة.
4. معاملات البنوك والتأمين والبورصات.
5. الممارسات الطبية الحديثة، طفل الأنبوب، نقل الأعضاء، الاستنساخ.
وغير ذلك من المستجدات.
1. الاجتهاد في الأمور المستحدثة المعاصرة وفي بعض الأمور القديمة.
2. مصادر المادة، وهنا الاستفادة من كتب النوازل – الفتاوى – الأقضية.
3. العناية بتوثيق آراء الفقهاء في مصادرها الأساسية لا الثانوية، مع بيان الأدلة الشرعية من الأثر والنظر.
4. بث الروح في الكتابات الفقهية بحيث تجمع بين الأحكام الشرعية وروحها كالسجود وما فيه من القرب والحج وما فيه من روح المناسك وغايتها.
5. ملحوظة: يجب الاستفادة مما كتبه كثير ممن راعى هذه النواحي كالدكتور القرضاوي ومحمد عمارة وعلي جمعة ومحمد الغزالي والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي وآخرين.
وباختصار فنحن بحاجة إلى إحياء علوم الدين بجمع بين العقل والقلب، والفكر والروح كما فعل حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله.
6. التواصل بين المذاهب الفقهية المعتبرة والاستفادة منها بغية العمل على وحدة الأمة، ولا سيما في تقنين الفقه الإسلامي.
تقنين الفقه الإسلامي وتصنيفه تصنيفاً جديداً يشمل :
ربط العقيدة بالفقه (كتاب الفقه الأكبر).
مراعاة التيسير والتبسيط ضمن القواعد والضوابط الشرعية.
فهرست كتب الفقه التراثية والمعاصرة بالمصطلحين التراثي والحديث، وذلك تيسيراً للباحث والطالب.
وأخيراً فإننا ندعو إلى تجديد يخلص الأمة الإسلامية من أزمتها الحضارية ويعيد لها قيادتها للأمم وريادتها للعالم، تجديد يتمسك بالثوابت وينطلق في المتغيرات بحيث يبني حداثة إسلامية على أصالة، ومعاصرة على تراث، وباختصار نريد لهذه الأمة أن تضع رجلها الأولى في القرون الهجرية الأولى صاحبة الخيرية، والرجل الثانية في القرن الحادي والعشرين الميلادي، حتى يتحقق فيها قوله تعالى: [ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ](آل عمران: الآية110). إذ يفهم من سياق الآية أنكم خيرُ أمةٍ أخرجت للناس، فكونوا كما كنتم كذلك، فحافظوا على مقام الخيرية في أداء الأمانة وتبليغ الرسالة، وتطبيق الشريعة.
وكونوا عباد الله الصالحين، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله حتى يورثكم الله الأرض ويجعلكم قادة للأمم وأئمة للعالمين، قال الله تعـالى:[]وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ](الأنبياء:105-107)