واحة الفكر والثقافة
>>
مقالات
دعوية :
الاستحسان بين الأصالة والتبعية
بقلم الأستاذ الشيخ : شهاب الدين فرفور .
تمهيد:
لا شك أن فكرة الاستحسان إنما هي قسيم لفكرة القياس ولأجل ذلك قال علماء الأصول: إن الاستحسان إنما هو اسم لدليل يقابلالقياس الجلي، يعمل به عند تعذر العمل بالقياس.
وعندما ننظر بعد هذا إلى مفهوم القياسبوجه جملي فإننا نجد أن القياس ليس إلا دليلاً من الأدلة التبعية التي لا تُقدَّمعلى كتاب ولا سنة ولا إجماع.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هلالاستحسان بهذا الاعتبار يكون قد اقتبس تبعيته من تبعية القياس فأصبح تابعاً للقياسبدليل أنه لا يُعمل به إلا عند تعذر العمل بالقياس؟ وباعتبار أن الاستحسان يعدُّخفيَّ العلة قوي الأثر فهل يعني أنه يأتي في رتبة متأخرة عن القياس؟
هذان السؤالان لا بد أن ينقدحا في ذهنالمحققين من العلماء وطلبة العلم، ولا بد في آن واحد أن يأخذا حقهما من الإجابةالأصولية الجدلية التفصيلية، وذلك لأنه يترتب من خلال الإجابة عنهما كشفٌ عن وجهجديد أصيل في تصور الاستحسان، لأجل ذلك أحببت أن أبسط القول مفصلاً في الكلام عنالاستحسان بين الأصالة أو الاستقلالية والتبعية للقياس، مع أني قصدتُ بالتبعيةتبعية الاستحسان للقياس لا أنه في الأصل مصدر من المصادر التبعية الظنية فإن ذلكمما لا شك فيه.
نظرة عامة في تنظير القياس والاستحسانبوجه عام:
من المعلوم أن القياس إنما هو ردُّالفرع إلى أصله بعلة جامعة بين الأصل والفرع، وأن الجامع بين الأصل والفرع فيالاستحسان إنما هو الأثر الظاهر القوي الذي يقوم مقام العلة، كما هو الشأن في قضيةطهارة سؤر سباع الطير، إذ الأثر الجامع القوي الذي ثبت مفعوله إنما هو كونها تشرببمنقار عظم مصقول وبناء على هذا المعنى نجد أن النجاسة المتولدة من اللحم لا تتسرىإلى الإناء، وذلك لأن العظم المصقول عازل حقيقي حسي يمنع من تسري النجاسة، فلا تتصلالنجاسة بالماء المستقر في الإناء فيبقى طاهراً.
هذا هو المثال الذي يعد أكثر أمثلةالاستحسان التطبيقية شهرة في أصولِ وفروعِ الحنفية، ولكن الغرض من هذا المثال هوأنه عندما يُقدَّم على القياس الذي هو نجاسة السؤر ألا يعتبر هذا الحكم الاستحسانيمستقلاً بنفسه؟
وإذا نظرنا من وجهة نظر أخرى وهي أنالحكم الاستحساني عندما قدم على الحكم القياسي فهل كان تقديمه من باب الشذوذوالضرورة أو لا؟
وأنه في تقديمه على القياس هل اتفق معالمقصد الشرعي أو لا ؟
بالطبع نستطيع القول بأن هذا الحكمالاستحساني وأمثاله عندما قدم على القياس ما قُدِّم إلا لأنه اتفق مع المقصد الشرعيخلافاً للقياس في المسألة ذاتها، وأنه بهذا الاعتبار لا يكون تقديمه من باب الشذوذوالضرورة، وإلا فإن هذا الحكم الاستحساني لو كان من باب الشذوذ والضرورة لما صح أنيعدى إلى غيره كما عدي حكم التحالف بين البائع والمشتري قبل القبض إلى محلٍّ آخروهو الإجارة.
وذلك لأن الضرورة تقدَّر بقدرها،والتعدية وجه من وجوه الاتساع، وهذا الاتساع مخالف لتقدير الشيء بقدره والوقوف عندحدوده الضيقة، أما كون الاستحسان لا يُعمل به إلا عند بطلان العمل بالقياس فلا يعنيهذا أن القياس هو الذي يمثل لنا الكثرة الكاثرة والقاعدةَ الكبيرة في جريان الحكمالقياسي، ولئن سلم أن القياس يمثل الكثرة الكاثرة في جريان الأحكام في مقابلالاستحسان فليست الكثرة هي العبرة في المسألة أبداً، وذلك لأن كلاً من القياسوالاستحسان دليلان خاضعان لقضية تحقيق المصلحة التي تترجم لنا المقصد الشرعي فيالمسائل والأفعال.
إذن فترجيح الحكم بناء على تحقيقالمصلحة إما بطريق القياس أو الاستحسان في هذا المقام، ووجهُ القاعدة والأصل منوطبتحقيق المصلحة الذي يعرفنا على المقصد الشرعي، ولا يمكن لشيء من الأشياء شأنُهتحقيق المصلحة والمقصدِ الشرعي أن يوصف بالشذوذ والجانبية، وذلك لأن كل مقصد شرعييوصف بالجوهرية وما كان تابعاً له يعد شيئاً جوهرياً، كما أن الشيء الذي يكونتابعاً للمعنى الجانبي يكتسب جانبيته من ذلك المعنى المتبوع.
ولنا في هذا المقام أن نطرح الإشكاليةالتالية وهي أن الاستحسان يمثل من وجه من الوجوه استثناءً من قاعدة الاستثناء، بهذاالاعتبار لا يعد مستقلاً، إذن فالاستحسان لا يصح عده مستقلاً عن القياس باعتبار أنهاستثناء عنه.
أقول: لقد ثبت لدى أصوليي الحنفية أنحقيقة الاستثناء إنما هي منع لدخول المستثنى في المستثنى منه عن طريق (إلا) أو مايقوم مقامها، وهذا المعنى قد تفرد به الحنفية، وتفردهم بهذا الاعتبار يعني أنالمستثنى سابق على المستثنى منه وجوداً وعدماً باعتبار أنه اتصف بعدم الدخول فيه،وذلك لأن العدم سابق على الوجود.
إذن فإننا نستطيع القول بهذا الاعتباربأن الذي اتصف بالوجود هو القياس ، والذي اتصف بالعدم هو الاستحسان باعتبار أنهاستثناء منه، والاستثناء قد عُدِمَ دخوله في المستثنى منه.
ولكن القضية في أن هذا الاستحسان الذيوصف بالاستثنائية عن القياس باعتبار أنه سابق على القياس لا يصح جعله متعلقاً بهتعلقاً عكسياً، أي أنه كلما امتنع العمل بالقياس صح العمل بالاستحسان، وكلما صحالقياس امتنع الاستحسان.
فكيف يصح ذلك حال كون الاستحسان قد عدعلى أنه تابع، إذ التابع لا يعارض المتبوع ؟ إذن فهذا التصور خاطئ مبدئياً، وذلكبالتقابل العكسي بين الاستحسان والقياس، باطل بناء على ما تقدم.
ولعل هذا التعلق الشرطي بينهما هو الذيجعل بعض الطلبة يتصورون أن الاستحسان تابع وليس مستقلاً عن القياس.
فلسفة الاستحسان
إن الموازنة بين قوة الأثر فيالاستحسان وفساد العلة في القياس يجعلنا نذهب بعض الشيء إلى الوقوف عند نظريةالتأثير في مراتب جنسية العلل لنعلم أن التأثير عندما يوجد في وصف من الأوصاف ويصحاعتباره شرعاً فإنه دليل على فساد غيره أو ما يقوم مقامها وعندما ينظر إلى الأثر فيالاستحسان حال كونه ظاهراً قوياً في مقابل فساد التعليل في تحقيق المصلحة في جانبه،يتبين أن ذلك أمارة على المقصد الشرعي.
وفي هذا المقام يترتب علينا أن نعلم أنوحدة التأثير()هي الأصل عند علماء الأصول في ترتب الأحكام على العلل،وأن وحدة الحق منوطة بوحدة التأثير كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وإذا كان الحقفي موضع الخلاف من الشرعيات واحداً غير متعدد فإن العلة التي تكشف عنه يجب أن تكونواحدة غير متعددة وأن هذه العلة إنما هي المشير الصحيح على مراد الله من ذلكالتعليل.
إذن فنخلص إلى نتيجة ألا وهي: أنه لايمكن أن ينعدم هذا التقابل العكسي بين الاستحسان والقياس، وأن عدم إمكانية انعدامهمبني على أصالته لا على تبعيته، وأنه على فرض انعدامه يفضي إلى تصورين باطلين :
1ـ أن يبطل العمل بهما معاً، وهذا دليلعلى فسادهما وليس هذا موضع الشاهد وهو تصور باطل.
2ـ أن يصح العمل بهما معاً وهذا يفضيإلى أن الحق في موضع الخلاف متعدد، وهذا قول المعتزلة، وهو ظاهر البطلان.
إذن لم يبق إلا أن يبطل أحدهما فيمقابل الآخر، وذلك بناء على فساد التعليل فيه بسبب الوصف أو()بسبب ترتبالحكم عليه، وفي ذلك تطبيق عملي على وحدة التأثير ووحدة الحق في موضع الخلاف.
لأجل ذلك كان لا بد من أن يقابلالاستحسان القياس، وذلك لنعلم أن مقابلة الاستحسان للقياس إنما كانت لأجل شيء واحدألا وهو أن كلاً منهما يحتاج إلى أصل وفرع وعلة جامعة بين الأصل والفرع، وذلك فيجانب القياس، وأثرٍ يقوم مقام العلة من وجه في جانب الاستحسان.
وبناء على ذلك لم يصح اعتبار استحسانالضرورة والأثر والإجماع أنواعاً حقيقية في باب الاستحسان، وذلك بسبب عدم خضوعهالقانون التعدية والتأصيل والتفريع، خلافاً للنوع الرابع من الاستحسان الذي هوالقياس الخفي، كما ذهب إلى ذلك المحققون من العلماء كصدر الشريعة قديماً والعلامةالزرقا حديثاً.
وعندما يقابل النوع الرابع منالاستحسان القياس فما ذلك إلا لأنهما اشتركا فيما تقدم، لأجل ذلك لا نستطيع أن نجعلكون الاستحسان قسيم القياس سبباً في تبعيته له، وإلا لصح أن نجعل الليل تابعاًللنهار أو العكس على أن ما بين الليل والنهار ليس إلا التقابل التام بوجههالأكمل.
خلاصة ونتيجة:
وبناء على النقاط التالية ألا وهيتقابل الاستحسان والقياس ـ أن الاستحسان استثناء من قاعدة بوجه من الوجوه ـ أنهيعمل به عند تعذر العمل بالقياس ـ أن مبنى الاستحسان على الأثر ومبنى القياس علىالعلة.
فإنه بعد ذلك يتحصل لدينا ما يلي:
1ـ أن نقطة الخلاف ومحل الشاهد فيالاستحسان تنحصر في النوع الرابع الذي هو استحسان القياس الخفي.
2ـ أن قصد الشارع ربما يأتي في جهةالحكم المخالف لظاهر الأدلة وعموم القواعد وذلك لأن القواعد الاجتهادية ظنية في بابالقياس الجلي.
3ـ أن العبرة إنما هي بتحقيق المصلحةفي الاجتهاد ولو كان ذلك مخالفاً لظاهر الأدلة.
4ـ أن الاستحسان إنما هو دليل ظني لايصح أن يقابل الكتاب والسنة والإجماع، ولكنه في الوقت نفسه من وجه آخر دليل مستقلعن القياس ولأجل ذلك صح أن يقابله؟.
5ـ أن الاستحسان عندما يرجح على القياس يكتسب من هذا الرجحان الأصالة، والأصالة تتنافى مع التبعية، وإذا رجح القياس عليه فإنه يسقط ويلغى وإذا أُلغي خرج عن كونه تابعاً أو متبوعاً. |