الحوار الحضاري في الإسلام
الإسلام كان من أوائل الشرائع السماوية والقوانين الأرضية التي دعت للحوار ودعمته وقبلت نتائجه
قد يظن بعض القراء أن هدفي من هذا المقال أن أحدثكم عن شروط وأركان الحوار الإسلامي أو أهدافه ومنطلقاته وأن أمور الحوار وتفاصيله كلها إنجاز إسلامي بامتياز, وبالطبع ليس هذا هو الهدف, إذ لا يخفى على الباحث أن الحوار الحضاري الراقي الذي نعهده اليوم, تم تحديثه وتطويره عبر قرون من التواصل والتكامل والعلاقات الحضارية التكاملية بين بني البشر, إلا أنني سأبرهن للجميع أن الإسلام كان من أوائل الشرائع السماوية والقوانين الأرضية التي دعت للحوار ودعمته لا بل قبلت نتائجه, فللحوار في ديننا وتراثنا معان رفيعة القدر سامية المكانة تكسوها مسحة حضارية راقية مارسها الرسول الأكرم (r) ونزل بها الوحي عليه ويؤكد ذلك ماورد في القرآن الكريم في سورة الكهف من قوله تعالى (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) والسيرة النبوية مليئة بقصص الحوار والمشاورة مع المؤمنين وغيرهم أي أن فكرة الحوار بدأت إسلامية وتطورت عبر التاريخ إلى أن وصلت إلينا على ما هي عليه الآن من السمو والتكامل, وفي ذلك تدعيم للفكر الحواري الحضاري الإنساني , ودعوة للتيارات الإسلامية على اختلاف انتماآتها المذهبية والفقهية لتلتزم الحوار العلمي البناء فيما بينها أولاً وفيما بينها وبين الآخر عموما أيا كان انتماؤه الحضاري أو الديني أو الثقافي, إن كانت حقا مسلمة .
فمما لاشك فيه أن الله قد خلق البشر جميعا من أرومة وطينة واحدة , وجعلهم متساوين في الحقوق والواجبات ، حيث (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى),كما قال الرسول الكريم r وأشركهم جميعا بأشياء كثيرة بالفطرة . ثم جعلهم يختلفون بأشياء أخرى ليدفعهم إلى التنافس والتعاون وتبادل المنافع ،
وذلك لكي يتمكن الإنسان من تحقيق أقصى حد من التقدم والسعادة, ووضع ضوابط للمنافسة الشريفة , إذ جعل التقوى والأخلاق المعيار الأساس الذي يفرق بين المتنافسين لكي يدركوا أن التنافس الحق ينبغي أن يكون شريفا ونزيها غايته الحقيقية السعادة الأبدية للبشرية .وذلك مصداقا لقوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وقوله (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
ونحن نعلم أن عملية التعاون والتعارف لا تتم إلا بالتواصل والحوار بأشكاله المختلفة فكيف نتعارف ونتعاون إن لم نتحاور ونتواصل والحوار الذي هو من أكثر أشكال الاتصال جدوى وفاعلية, الأمر المتأصل في الفطرة البشرية منذ الأزل. فقد خلق الله الناس جميعا وجعلهم شعوبا وقبائل، أي أجناسا متعددة، لهم حضارات مختلفة ليتعارفوا ويتعاونوا لما فيه مصالحهم,
والحوار بمعناه الواسع يعني التفاعل وتبادل الأفكار بين طرفين أو أكثر تتبادل فيه الأطراف المتحاورة المشاعر والاحتياجات والآراء والأفكار والمعتقدات, مما يزيد المودة والصداقة بين الأطراف المتحاورة. وأكبر دليل على مشروعية الحوار والجدال حتى مع الرسول الأكرم r قصة المرأة التي جادلت النبي والوارد ذكرها بالقرآن الكريم بقوله تعالى وقوله تعالى ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) وبالطبع فقد انتصر البارئ عوجل للمرأة ضد زوجها وهنالك العديد من أحداث السيرة النبوية تتحدث عن الحوار والجدال بين الرسول r وأهل الكتاب وغيرهم وقد أقره r لا بل عمل بوجهة نظر بعض الصحابة أحيانا.
وللحوار الجاد ثلاثة أهداف رئيسية هي:
1- التفاهم في مسألة فيها خلاف ومحاولة الوصول إلى حل وسط،
2- التعرف على ما عند الطرف الآخر من أفكار أو آراء، لتحديد نقاط الاختلاف ونقاط الاتفاق,
3- إنجاز عمل لصالح أحد الطرفين أو لصالح الطرفين معا ، ويندرج فيها جميع أنواع السلوك أثناء التعامل الروتيني اليومي.
وربما كان هذا النوع من الحوار أبلغ من كثير من الأبحاث التي تقدم في ندوات الحوار بين الحضارات.
والحضارة الإسلامية واحدة من الحضارات التي تقيدها مجموعة من الضوابط الدينية، فالإسلام يشمل مجموعة من القواعد العامة والتفصيلية تغطي كافة جوانب الحياة الدنيا: العقائد والعبادات ( العلاقة بين الخالق والمخلوق)، والمعاملات والآداب العامة والأخلاق (العلاقة بين المخلوقات) ، ويمنح فرصة للاجتهاد والتعدد المقبول في الآراء الفقهية.والتعليمات الدينية مقسمة إلى دائرتين رئيسيتين أولاهما دائرة الثوابت القطعية الثبوت كالقرآن الكريم والسنة النبوية المتفق على صحتها. وثانيهما دائرة المتغيرات القابلة للاجتهاد والقياس ورأي الأغلبية والاستحسان وغيرها من دوائر الاجتهاد .
فالإسلام يحث المسلمين على الحوار والتعارف والتعاون مع الغير لتحقيق السلام المبدئي في الدنيا, والإسلام يجعل القاعدة العامة للعلاقة بين المسلمين وغيرهم من المسالمين البر والإحسان بقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم } و الحوار بالتي هي أحسن بقوله عز وجل ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
ولو أخذنا بعض النماذج من السيرة النبوية لوجدنا أن الاختلاف في العقيدة لم يمنع الرسول r من التوجيه بالوصاية خيرا بأهل مصر عموما في قوله: "إنكم ستفتحون مصر.. فأحسنوا إلى أهلها ....
والقرآن الكريم يأمر بحسن معاملة الوالدين المشركين في قوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا، وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}.
وانطلاقا من هذا المبدأ الذي يوفر البيئة المناسبة للحوار من أجل الأفضل للجميع كان الرسول r يكرم أضيافه وإن كانوا غير مسلمين فقد سمح مثلا لوفد نصارى نجران أن يؤدي صلاته في مسجده. وكذلك قالrمثلا: "ما من مسلم يغرس غرسا فيأكل منه إنسان أو دابة أو طير إلا كان له صدقة". فهو يحث على عمل الخير للإنسان بصرف النظر عن دين المستفيد منه.
وأوصى الإسلام برابطة الجوار خيرا، حيث يقول الرسول r: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" دون تحديد أن يكون الجار مسلما أو غير مسلم. وقد أمر الرسول لما ذُبِحت له شاة أن يُهدى منها لجاره اليهودي".
ومن الأدلة والأمثلة التي تؤكد على الصلة مع غير المسلمين أن الرسول r بعثاجتماعية،كة قبل أن يفتحها مالا لما قحطوا ليوزع على فقرائهم، وأنه عليه الصلاة والسلام تصدق بصدقة على أناس من يهود، فهي تجرى عليهم، وأنه عليه الصلاة والسلام قام لجنازة يهودي. كما أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رأى نصارى مجزومين فأمر لهم بمساعدة اجتماعية ، واغتاله ذمي فلم يمنعه ذلك من أن يوصي بهم خيرا.
ومما لاشك به أن هذا التسامح إنما ينتج عن التعاليم الإسلامية السمحة التي تنص على كرامة الإنسان عموما وعلى حرية الاختيار في الدنيا (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) وعلى أن المسلم ليس مكلفا بمحاسبة الآخرين على توجهاتهم, بل عليه فقط دعوتهم بالحسنى,
ومن مبادئ الإسلام احترام العقود الصريحة والضمنية رغم اختلاف العقيدة أو الحضارة. ومن مبادئه أيضا أن يرجو المسلمون للآخرين ما يرجونه لأنفسهم من الخير فيدعون لهم بالهداية والرشاد. وهو مبدأ أنبياء الله جميعا،
ومن الجهود المتبادلة في توفير البيئة المناسبة للحوار إسلاميا الثناء على العمل الصالح وإن صدر ممن نختلف معه في بعض الأمور ومنها العقيدة. فقد أشار الرسول r بصيغة الثناء إلى حلف الفضول ومن دعا إليه حيث قال " لو دعيت في الإسلام إلى مثله لأجبت "، وأثنى على ملك الحبشة الذي لم يكن مسلما وقال عنه إنه ملك لا يظلم عنده أحد.
ويطالبنا البارئ عز وجل بالدعوة والجدال بالحسنى بقوله : {ادع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن},
والأصل في المحاورة الحضارية خلوها من الخداع والأساليب الملتوية أو الجارحة، وعندها يصل الحوار في الغالب لزيادة الاحترام والمودة بين الأطراف المتحاورة، سواء أقبل أحد المتحاورين رأي المحاور الآخر أم رفضه،
وهناك نماذج كثيرة للحوار اللفظي بين الإسلام والحضارات النماذج.سوف أقتصر على إيراد بعضها مما ورد في السيرة النبوية من نماذج.
إذ إن جميع الجهود الدعوية للرسول rيمكن اعتبارها مبادرات للدعوة إلى الخير الشامل أو مبادرات لاستثارة الحوار بين الثقافات والأديان والحضارات.
ولعل من أبرز الجهود التي بذلها الرسول r لدعوة أصحاب الديانات والحضارات الأخرى إلى الإسلام أو لاستثارة الحوار معها رسائله: إلى ملوك الدول الأخرى,
كذلك تلك التي جرت بين الرسول r ووفد نصارى نجران، حيث أكد لهم النبي مكانة عيسى عليه السلام في الإسلام، وحول ما يريده الرسول rمنهم ، وأكد لهم أن الأنبياء إخوة في الدعوة إلى الله إذ قال لهم أنه قد بعث ليتمم مكارم الأخلاق التي بدأها الأنبياء السابقون وأوضح لهم أنه يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى.
من المؤكد أن هذا المبدأ هو مبدأ الرسالات السماوية كلها، فهو مبدأ الفطرة البشرية السليمة ، فهل الأديان هي السبب الرئيسي للصراعات والحروب الدموية التي وقعت وتقع في كل زمان ومكان ؟.
إن أتباع الرسالات السماوية المؤمنين الحقيقيين منهم يدركون جيدا أن الصراع المادي جزء طبيعي من الحياة في هذه الدنيا. فأعوان الشر لا يزالون نشطين في محاربة الخير، ولا بد لأعوان الخير أن ينتبهوا إلى هذه الحقيقة ولا يقعوا فرائس سهلة للشباك التي ينصبها لهم أعوان الشر,الذين يزينون المصالح الشخصية، ويحثون الأباطرة على الجري وراء الحروب والكوارث.
ولكن لو استعرضنا أسباب الحروب في العالم بدقة لوجدناها تتمثل فيما يلي:
- المصالح والأطماع الاستعمارية لبعض القادة السياسيين والعسكريين،
- المنافسة غير الشريفة والحقد الأعمى عند بعض الأشخاص من أتباع الحضارات المختلفة
- استغلال ذوي المصالح الأنانية للاختلافات الطبيعية (العنصر واللون) والمكتسبة (الاختلاف في الدين والثقافة)
وهنالك أمثلة كثيرة لمساهمة العرب والمسلمين أفرادا وحكومات في توفير البيئة الصالحة للحوار الحضاري، وهي نفسها نماذج مشرفة للحوار بين الحضارات،
وانطلاقا من هذا المبدأ فقد عملت الحكومات العربية والإسلامية على توفير البيئة المناسبة للحوار بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى بطرق مختلفة، منها تقديم الدعم المالي لمراكز الحوار الحضاري في بعض الجامعات ومراكز الدراسات العربية والغربية.كما شاركت التيارات الإسلامية المعتدلة والمتنورة في توفير البيئة الشعبية المناسبة للحوار الحضاري,
وهنا يبرز سؤال هام وهو ما دام الأمر كذلك فلماذا كانت الحروب بين أتباع الرسالات المختلفة عموما؟.
إن أصحاب الرسالات ايتوقفوا عنكون جيدا أن الدين بريء من تهمة إشعال الحروب, براءة الذئب من دم يعقوب فصراع المصالح المادية والأطماع البشرية جزء طبيعي من طبائع وغرائز البشر. وأعوان الشر لا ولن يتوقفوا عن محاربة الخير، ويبثون الأحقاد بين الشعوب.
إذ إن أغلب الحروب والصراعات التي تقنعت بالدين كانت صراعات مصالح مادية وهيمنة استعمارية, " خذ الحروب الصليبية مثلا " إذ تقنع الغربيون بالصليب وأعلنوها حربا صليبية لاستثارة المشاعر الدينية للمسيحيين الغربيين والشرقيين ولكن خاب فألهم وأسماها العرب حروب الفرنجة , واتضح الأمر لكل ذي بصيرة أنها حرب استعمارية مادية هدفها السيطرة على مقدرات وثروات الشرق العربي, وما الحرب التي تشنها أمريكا والغرب على المنطقة العربية إلا حربا قذرة أخرى هدفها المحافظة على مصالح الغرب باستمرار تدفق النفط والثروات العربية ولهيمنة الصهيونية والغرب على المنطقة العربية بحجج مختلفة فتارة حرب صليبية وأخرى لنزع أسلحة الدمار الشامل وثالثة لمحاربة التطرف والإرهاب الذي يغذيانه بحروبهم هذه وبشكل غير مسبوق لما يسببانه من ظلم وقتل واضطهاد وإذلال لشعوب ومقدسات وثقافات وتراث العرب والمسلمين والعالم الثالث أجمع , إذ إن الدعاة الحقيقيين للدين هم دعاة مسالمون وخصوصا المؤمنون منهم يتمثلون قول البارئ عز وجل " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ".و.." لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" صدق الله العظيم
الدكتور عبد القادر الكتاني
أستاذ الدراسات الإسلامية العليا والتخصصية
رئيس مركز الدراسات العربية والإسلامية
عودة إلى أرشيف كلمة الشهر |