· الصلاة والحيز المكاني
لقد اشتُقت الصلاة لغة من الجذر الذي اشتق التواصل منه، فهي تواصل بكل ما فيها من قول وفعل. أمّا القول فالحديث فيه يطول وسنرجئه إلى مقام آخر ؛ وأمّا الفعل فسأتناول فيه مسألة الأحياز المكانية والتي يدرسها السيميائيون تحت عنوان (la proxemique) وتقوم على فكرة أنّ لكل فرد حيّز مكاني يحيط به لا يسمح لأيّ كان أن يلجه دون إذن منه لما يمثله هذا الحيز من دور في تحديد شخصية الفرد ومكانته في عملية التواصل، ألا ترى أنّ الناس يميلون إلى ترك مسافة بينهم في الأحوال التي لا توجد فيها معرفة حقّة بينهم، والعكس صحيح؟
في الصلاة، يترك المصلّي أمامه حيزاً لا يسمح لأيّ كان أن يدخله طالما هو في وضع تواصل خاص، وقد أكد الحديث الشريف على ضرورة المحافظة على هذا الحيز وعدم السماح لشخص آخر باختراقه ولو سهواً، فعملية التواصل القائمة بين العبد وربه لا أن تكون مؤطّرة زمانيا ومكانيا وضمن قوانين وقواعد وأصول التواصل المعتمدة، وهذه واحدة منها. إنّ الدلالة السيميائية للحيز المكاني الذي يتركه المصلي أمامه تتمثل في اعتقاد المصلي بوجوده في حضرة غير عادية الطرف الآخر فيها هو الخالق سبحانه لذلك لا يمكن التنقل ضمن هذا الحيز إلا لدواع أطّرها الشارع بأطر الضرورة الملحّة وضمن نمط سلوكي حركي معيّن مبني على نقل الحيز لا على اختراقه : انتقال المصلي من مكانه إلى مكان آخر لا يقوم على العشوائية والكيفية بل على الهدوء والاحترام والانتظام مما يترك انطباعاً لدى المصلي ولدى من يراه أنه ينتقل ككتلة واحدة ومنها الحيز المكاني.
· القِبلة
قد يمر المرء على آية تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في سورة البقرة دون أن يلتفت إلى بعض اللطائف التي يمكن أن نقرأها كما يلي.
يمثّل المركز في الكثير من الحقول (الطبية، العسكرية، الرياضية، إلخ) نقطة الاستقطاب والقوة والفعل، وإنّ اختيار مركز موحّد يتجه إليه المصلّون في صلاتهم يقوم على مفهوم سيميائي يسمى الأداء المشترك ويتمثل في ميادين أخرى مثلا بخلق نقطة مراقبة واستقطاب تمتص اهتمام الفرد في أدائه ولغاية ما. نضرب مثلا لذلك بناء الدعاية والإعلان الذي يقوم على استراتيجية الاستقطاب المركزي المتمثل بمادة الدعاية.
أمّا تحديد القبلة فهو في رأيي من أهم الخطوات التي مرّ بها هذا الدين الحنيف وجاء بيانها في سورة البقرة متمثلا باختبار المؤمنين حقا وخاصة لحظة الانتقال من قبلة المقدس إلى قبلة البيت العتيق. كان بيت المقدس يمثل نقطة استقطاب جميع المؤمنين في كافة أرجاء المعمورة، إلا أنّ هذا الاستقطاب كان مرتبطا بالديانة اليهودية وبفئة حاولت أن تجعل من هذا الاستقطاب مصدر سيطرة على الآخرين فيما يتعلق بمشروعية حيازة المعارف الربّانية فجاء التغيير في أثناء عملية تواصل قائمة (الصلاة) كما تروي أغلب المصادر لتؤكّد على أنّ مركز الاستقطاب قد تغيّر وأنّ السلطة التي منحت سابقاً لفئة ما قد تم تسليم رايتها للفئة التي تحوز المكان الجديد والمركز المختار (البيت العتيق).
إنّ الله سبحانه في كلّ مكان ولا نحتاج في عبادته إلى مكان محدد، لأنّا حيث ما ولّينا فثمّ وجهه سبحانه، إلا أنّا لا نعدم في تحديد القبلة معاني سيميائية جمة، منها ما ذكرناه، ومنها أيضاً خلق معنى جديد للالتزام المتمثّل بقبول الاتجاه الجديد الذي تتخذه الإنسانية جمعاء وراء ذلك النبي الزكيّ وتحقيقاً لدعوة جدّه إبراهيم عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه. إنّ سيميائية الاتجاه لا تقتصر على حقل الهندسة الفضائية، بل تتعداه إلى العلم والسياسة والإيديولوجيا والدّين والفكر وغيرها، وفي ذلك تكمن أهمية تحديد اتّجاه القبلة فهو اتّجاه يشمل كل تلك المعاني ويحتاج في البرهان على قبولها الالتزام بها، فلا تصح صلاة إلا في تحرّي ذلك الاتجاه.
· صوم العذراء والتواصل بالحركة
لا يخفى على أيّ منا استبدال سيدتنا مريم، عليها وعلى ابنها وعلى رسولنا السلام، نظامَ التواصل اللساني بآخر حركي خلاصاً من مساءلة أهلها لها فيما يتعلق بولادة ذلك الطفل دونما أب. لقد نذرتُ صوما لله أن لا أتكلّم وأن أتواصل بالحركة إذ أشير إلى ذلك الطفل ففهموا ما قالت لهم بالحركة أن كلّموه واستفسروا! ولمّا كان النظام التواصلي اللساني هو الأكثر شيوعاً والأكثر استخداما والأكثر تعقيدا، ولا يكتسب عند الولادة مباشرة بل يحتاج إلى دربة وعيش في مجموعة لغوية لفترة ما ؛ ولمّا كانت الحركات تنقسم إلى إراديّة ولا إرادية، لم يكن ردّه عليه السلام بالحركة لئلا يلتبس على الناس أمر حركاته فلكل طفل حركات يؤوّلها أهله كما يشاؤون، فجاء الردّ باللسان معلناً أنه عبد الله ورسوله.
إنّ التعبّد بالنظام الحركي جزء لا يتجزّأ من التعبّد العام، واستبدال نظام الحركات باللسان أمر يلجأ إليه كثير من الناس في حالات مختلفة، منها ما وقع لنبي الله زكريّا حين خرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم بالحركات أن سبحوا لله.
لا بدّ أن أذكر وأنا أختم هذه الوريقة أنّ سيميائية العبادات تستغرق أكثر مما ذكرت وتحتاج لدرسها إلى مهتمين باحثين للوقوف على علاماتها ومعانيها وقوانينها، كل عبادة على حده. إنّ الحجّ مثلا حقل تقوم العبادة فيه في كثير من مناحيها على الحركة والرمز الحركي الذي يمثل في توظيفه ضمن إطار معين مادة دسمة لدرس سيميائي آمل أن أعرض عليكم نتفاً منه في وريقة قادمة. يكفي في ذا المقام أن أذكّركم بسيميائية الطواف وعدد الأشواط وسيميائية السعي والرجم والوقوف بعرفات.
الحياة كلها علامات وإشارات، وفي كل واحدة منها دلالة، إن لم نقل دلالات، تشكل مادة علم العلامات والسيميائية، على أنّي يجب ّأن أذكر أن الكثير من التأويلات السيميائية التي كنّا نقرؤوها، والتي كانت في الغالب ذاتية غير موضوعية، أصبحت تخضع لقوانين تمّ اكتشافها وتثبيتها واختبار صلاحيتها في مجالات مختلفة.
د. أحمد حاجي صَفَر
أستاذ اللسانيات والسيميائية في جامعة دمشق